ظواهر ثقافية وأدبية صنعها الإعلام الجديد
بين فينة وأخرى يعلن كاتب ما ضمن توجّه مؤسساتي، أنه سيعطي دورة أو ورشة في كيفية الكتابة الإبداعية أو دورة في أساسيات الكتابة، أو كيف تنمي قدراتك الكتابية والقرائية..ألخ، أتفهم تماما أن يكون مثل هذا التوجه ضمن الأهداف الكبرى التي تسعى وزارة الثقافة من خلال هيئاتها وجمعياتها في ترسيخ وانتشار الوعي بالقراءة والكتابة من أجل صناعة إنسان ثقافي معرفي منفتح على العالم والمستقبل.
لكن ما لا أفهمه أن يعلن كاتب أو صحفي أو مبدع، لم تتجاوز خبرته في المجال الذي يرتبط به سنة أو سنتين على الأكثر، ناهيك عن عمره الذي لم تختبره الحياة بتجاربها العديدة.. ولكثرة مثل هذه الإعلانات، أصبح من الصعب متابعتها أو الوقوف على ما تعنيه مثل هذه الدورات للمشهد الثقافي بشكل عام، لست معترضا بالأساس على إقامة مثل هذه الدورات والورش. لكن وضع الشروط الملزمة التي تمنع حالات الفوضى والعشوائية كما نرى مطلب ضروري، من أجل أن يكون هناك تنظيم في العمل الثقافي.
قد لا يبدو للشروط من معنى خارج حدود المؤسسات الثقافية متنوعة المشارب والاتجاهات، فالإعلام الجديد بتطوره الحالي وسرعته الكبيرة في إحداث الأثر الذي غيّر العديد من أنماط العلاقات الاجتماعية، وأنماط النظر إلى العلاقات الثقافية والثقافة نفسها، وأنماط النشاط الكتابي والقرائي، قد أدى إلى وجود ظواهر ثقافية مختلفة، ولمجرد تأملها من الخارج، سترى سمات الفوضى ترتبط بها بطريقة أو بأخرى، بينما لو تأملتها من الداخل ووقفت على شروط تشكلها وجدت أنها تنتمي إلى إفرازات الإعلام الجديد.
فعلى سبيل المثال كانت الرموز الثقافية والأدبية والفكرية العربية، مع الإعلام القديم، ما قبل السوشيال ميديا، معروفة للجميع، على الأقل، المهتم بالمجال الثقافي والأدبي، وكانت تُعدّ على رؤوس الأصابع، ولا خلاف بالتالي على تكرار أسماء هذه الشخصيات المثقفة والمبدعة، إذا كانت هناك مناسبة ثقافية أو أدبية من هنا أو هناك، والكل متفق على أهمية حضورها مهما تكررت دعوتها، لذلك مثل هذا الوضع خلق نمطا من العلاقات بين المثقفين والمبدعين الرموز من جهة وبين الإعلاميين المثقفين والمبدعين من جهة أخرى، وكأن هناك تواطأ مغلفا بلغة تهدف إلى أن تخدم الجهتين بما يشكل نظاما للعمل الثقافي، ظل مهيمنا على الساحة الثقافية العربية فترة من الزمن.
لكن فجأة مع الإعلام الجديد تغيّر كل شيء، ولم يجر في بالنا يوما ما «نحن الجيل الذي عاصر الفترتين»، أن هؤلاء الرموز الذين هم خلاصة الثقافة وهم خلاصة الإبداع كما كان الإعلام يردده على مسامعنا طيلة تلك الفترة، قد كانت تعيش بجوارهم أصوات مثقفة ومبدعة لم تجد لها قنوات إعلامية يمكن أن تخرجها في العلن، وبالتالي حدث ما يشبه الانقلاب على جميع تلك الأنماط من العلاقات، وعلى إثر ذلك برزت أسماء مثقفة ومبدعة في أنحاء الوطن العربي من جيل سابق على جيل السوشل ميديا، وأصبحت أسماؤهم تتردد في المحافل والأمسيات والمهرجانات، طبعا يعزز هذا الحضور لهذه الأسماء الجيلُ الجديد القريب أكثر من الإعلام الجديد، والذي له ارتباط كبير بدهاليز هذا الإعلام.
وأنا هنا لا أعطي تقييماً وإنما أصف الحالة فقط، لكن نتج عن ذلك كما قلنا حالة من الفوضى، وما أعنيه هنا بالفوضى هو طغيان الذاكرة القصيرة التي تكاد تنعدم في أذهان المهتمين بالمجالين الثقافي والأدبي، سواء من الذين ويمارسون ويكتبون في المجال الثقافي والإبداعي، أو المسؤولين عن إقامة الفعاليات المختلفة، وهذا معناه في ظني أن فكرة التواصل مع أهم الرموز الثقافية والأدبية قد لا تجد لها محلا عند الجيل الجديد إذا كانت مثل تلك الظواهر التي ذكرناها في بداية المقال قد انتشرت وأصبحت تطغى بصورة لافتة للنظر.