الشيطان يعتمر عباءة الإيمان
ما أكثر ما نقرأ عن عبارات رنانة تهز المشاعر ونجد الآخرين يسارعون بنشرها، يتعاملون معها فرحين كأنها كلمات مقدسة وقول عظيم نزل من السماء، دون أن يدركوا بأن الشيطان يكمن في التفاصيل. يبدو في هذه الأيام أن شروط النشر لا يتضمن التحقق من المصدر. في الزمن القديم لم يكن هذا الأمر شائعاً حيث كانت الأمية منتشرة في الأنحاء، وكانت المعلومات تأتي غالباً من رجال الدين أو الرحالة الذين كانوا يكتسبون المعرفة من خلال ترحالهم بمختلف البلدان. بينما كان المتداول لدى عامة الناس محلياً لا يتعدى الحكايات والأساطير الشعبية.
ومع انفجار الثورة المعلوماتية خلال نصف القرن الأخير، لم تعد المعلومات محصورة على علماء الدين أو حتى المثقفين والمتعلمين، بل حتى أبسط الناس أصبح يقرأ ويكتب وينقل المعلومة دون ترو، وينشرها بلا إدراك منه من كمية القنابل والفخاخ الموجودة فيها. دعونا نتناول بعض الأمثلة مما يُتداول من العبارات والتي هي في الواقع لم تصدر من عالم ولا متعلم، بل صدرت من الشيطان عندما يرتدي رداء الإيمان ويعتمر عمامة الفضيلة ويتظاهر بأنه يمارس الوعظ والإرشاد!
”اتركوا الطواف حول الكعبة، وطوفوا حول بيوت الفقراء“، عبارة تتكرر موسمياً مع اقتراب موسم الحج أو خلال أشهر العمرة. البعض ينشرها كأنها مقولة نبي أو أحد الأتقياء، دون أن يفكر بالسؤال: من هو قائلها؟! ربما كاتب هذه الكلمات وناشرها يعتقدون أن الفقراء في زمن النبي الأكرم ﷺ كانوا مختبئين في كهوف سرية لا يعرف مكانهم حتى الخالق علام الغيوب! أوليس الفقراء موجودين في كل مكان وزمان حتى في زمن الأنبياء؟ لماذا لم يُمنع الحج حينها ليتم صرفها على المحتاجين بدلاً من أداء الشعيرة؟ إن نشر مثل هذه العبارة لا شك أنه يؤدي إلى تشتيت الناس عن الأهداف الروحية الحقيقية لأحد أهم شعائر الله.
”التصدق بثمن الأضحية أفضل من ذبحها“، عبارة تجعلك تشعر وكأنها صدرت من جمعية الرفق بالحيوان! لعل الشيطان عندما وسوس لمن كتب هذه الجملة جعله يعتقد بأنه خبير اقتصادي. نعم، لم لا يعيد النظر في كل شيء؟ يجب أن يمنع الناس من أداء سنة مؤكدة ليستبدلها بالصدقة، وكأن الفقراء يمتقعون ويحزنون عندما يدخل في بيوتهم اللحم الطازج بدلاً من النقود! لكم أن تتخيلوا المشهد: الشيطان يعتمر رداءه الذي يظهر كأنه إيماني ويقف على المنبر والدموع تنهمر من عينيه كدموع التماسيح ويصرخ: ”أيها المؤمنوووون، لماذا تنفقون أموالكم على الأضاحي وتقتلونها؟ إنها حيوانات مسكينة!“ ليختلط الأمور على المستمعين، وفي النهاية لا أضحية ذُبِحَت، ولا صدقة دُفِعت!
”لقمة في فم جائع أفضل من بناء ألف جامع“، مع أن الجوامع ليست مجرد مباني حجرية، بل هي منارات للعلم والتقوى يجتمع فيها المؤمنون ويتعاضدون في جمع الصدقات والزكاة والحقوق الشرعية التي توجه للفقراء والمساكين بالإضافة إلى الصالح العام للمسلمين. لكن الشيطان بالطبع لا يروق له ذلك، فيرتدي مجدداً رداءه الديني ويلبس تحته أفخم صاياته ليتوغل وسط بعض من في قلوبهم مرض ليحفزهم بأن يستعرضوا الأمر بالاتجاه المعاكس، وكأن المساجد تشكل خطراً على المجتمع، وأنه يجب إيقاف أي حملة أو دعوة لبنائها بحجة الدفاع عن مصالح الفقراء، تماماً كمن يحاول إطفاء الشمس بحجة توفير الظل!
لذلك يقوم هؤلاء الغوغائية بالهجوم على الذين يجمعون الأموال اللازمة لبناء مسجد سواء من خلال الأوقاف أو من أموال أهل الخير بعبارات مثل: ”من أين لكم هذا؟“ ”أنتم تستغلون جهل الناس وتستغفلونهم وتمارسون العهر الديني!“، وينشرون عبارات كيدية ضدهم ويحبكون المؤامرات، لعله من الغرابة بمكان إقناع الناس بأن السبيل إلى الجنة يمر عبر إغلاق بيوت الله! وتصبح بذلك إعلان حرب على شعائر الله تحت ستار الدفاع عن الفقراء والمساكين، لينتهي الأمر بمصادرة الأموال والأوقاف. النتيجة: لا مكان يُعبد فيه الرب الأعلى، ولا صدقة تُدفع للمسكين.
يبدو أن الشيطان قد قرر أن يتخصص في الطب أيضاً، ويُطلق تحذيرات صحية حول زيارة الأماكن الدينية. ”زيارة الأماكن الدينية تؤدي لاحتكاك الركب“، عبارة جديدة في حملة الشيطان لتقويض الشعائر الدينية تحت ستار العلم والصحة، يبث تقارير زائفة بأن هذه الشعائر من طواف وركوع وسجود، بالإضافة إلى شد الرحال إلى البقاع المباركة، كلها أنشطة خطيرة على الصحة! ما شاء الله أصبح الشيطان حريصاً على صحتنا، لعل الكسل والجلوس أمام التلفاز وتناول الحلويات والمكسرات والسمنة الناتجة عن تناول الطعام غير الصحي أقل خطورة لدى الشيطان على حياة الإنسان!
الحيلة هنا ليست مجرد استغباء للناس، بل هي خدعة شيطانية تهدف إلى تحويل الأنظار عن الأهداف الروحية السامية، وتوجيهها نحو مصالح شخصية وسياسية دنيئة. المسألة تتجاوز حدود السخرية إلى استغلال خطير واستحمار للمؤمنين. الشيطان، حتى لو ارتدى رداء التقوى، يظل شيطاناً، وأفعاله تظل شريرة مهما تجملت بعبارات دينية براقة. لذلك من الضروري أن يكون المتلقي فطناً وواعياً لتجنب الوقوع في مثل هذه الفخاخ ”المؤمن هو الكيس الفطن“، وكذلك احذروا من النصائح ”الطبية“ الشيطانية، الشيطان مهما بلغ من العلم، فهو بالتأكيد لم يتخرج من كلية الطب!