آخر تحديث: 27 / 7 / 2024م - 2:13 ص

ليست متسولة

عبد الباري الدخيل *

عبثًا تحاول «صباح» أن تخفي حزنها وألمها، تضحك وكأنها في مسرحية لعبدالحسن عبدالرضا أو عادل إمام، لكنها تسقط في بئر الأحزان فجأة وتغيب عن الحاضر، لذلك تشغل نفسها للهروب من قاع الحزن، لا يوجد مساحة للفراغ في حياتها، توزع ساعات من عمرها في الأسواق، تتبضع لأطفال لم تلدهم.

ذات صباح عادت إلى مكتبها بعد أن أخذت جولة مع الصحفية إنتصار إسماعيل، وعرّفتها على مكونات دار رعاية الأيتام، وما تقدمه لهم من رعاية جسمية وعقلية وروحية.

جلست تروي لها بكل سعادة: كيف صار هذا الحلم حقيقة؟

وكيف بذلت من جهدها ومالها ما يجعل هذا الصرح داعمًا للمجتمع، بحماية الأيتام ليكونوا جزءًا صالحًا بنّاءً في المجتمع؟

ولتكون شريكة معهم في تحقيق أحلامهم، وبناء مستقبلهم.

إنها في الحقيقة قصة امرأةٍ خاضت رحلة الحياة بكلّ ما فيها من تحديات وقسوة، ليس من أجلها بل من أجل أيتام أعطتهم الحياة ظهرها فوجدوا في حضنها الدفء والأمان.

***

كنت هناك عندما بدأ نجمها بالصعود، وتابعتُ أفوله ثم عودته، كانت كشجرة تكسّرت أغصانها وبقي جذرها يصارع الموت حتى هزمه، وعادت لتزهر من جديد وتعانق السماء، فالأحداث المتتالية حولت تلك الوردة الناعمة، إلى سيدة صلبة عصية على الانكسار.

كان والدها يعمل عند «عمنا أبوناصر» ”قهوجي“، وكان أفضل من يزن مزاج «العم».

ولأنه كان من الواجب أن يذهب «العم» ليعزي أسرته بعد وفاته، فقد رافقته، وهناك كانت البداية، هي من فتح لنا الباب واستقبلتنا بكل أدب وخشوع، يجللها الحزن، ولكنها في الواقع ازدادت جمالًا، ففتحت قلب «العم» ودخلت بلا مقدمات.

اعتقدتْ أنها ستهرب من الفقر والحاجة، فوافقت عليه وتزوجته رغم الدوائر التي تفرّق بينهم، وليس العمر وحده المشكلة.

«أبوناصر» رجل أعمال، عاش مع زوجته الأولى سنوات لم يرزق منها أطفالًا، وقد استسلم لقضاء الله وقدره، وصبر على حاله إلى أن بزغ نور «صباح» فتجدد نشاطه وعاد يصبغ بياض شعره، و”يتشبب“.

عاش معها أيام يُحسد على سعادته، حتى جاء يوم الطامة، اتصال يحمل خبرًا سعيدًا لها وفاجعة له.

? ابوناصر مبروك أنا حامل.

? حامل؟ كيف؟ أنا عقيم، تقرير المستشفى قبل 40 سنة قال: ”لا يستطيع الانجاب“.

ثار بركان غضبه، وخرج قاصدًا بيته، وهجم عليها كالأسد إذ يفتك بفريسته، متهمًا إياها بالخيانة، ضربها حتى أسقطت جنينها، وأفسد النزيف رحمها، في لحظة واحدة تحول فرحها إلى حزن، واجتاح قلبها الألم، فلا تقاس أي لحظة بتلك التي نفقد فيها شيئًا عزيزًا لا يمكن استعادته، فهل من وجع أعظم من فقدان الأمومة؟

خرج متأزمًا حزينًا، لا يعرف أين يذهب، جلس إليَّ وشكى همه وألمه، وتحدث عن جرحه الذي جاء على جرح قديم فأدماه.

اعترفتُ له بخيانة زوجته الأولى، ومشاركتي لها في تزوير التقرير الطبي، هي التي لا تنجب، وهي التي خافت على عرشها وجاهها، فزوّرت وقلبت الحقيقة.

وقبل أن أكمل كلامي، أكمل كل أيامه ومات بسكتة قلبية.

ورثت «صباح» الملايين، لكنها خسرت الأمومة، وصارت تتسول كلمة «ماما» من أفواه الأيتام، فيمطرونها حبًا وفرحًا سعادة.