آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

المرحلة الذهبية

رضي منصور العسيف *

قلت له إنني بصدد كتابة قصص بعض المرضى... بعض مواقفهم، بعض إنجازاتهم، أخلاقهم، فلكل مريض قصة وتجربة تستحق أن تكتب ليستفيد منها الآخرون...

هل لديك تجربة من هذا النوع؟!

صار ينظر إلي وكأنه يتذكر شيئا ما.. ثم سألني لماذا اخترتني من بقية هؤلاء المرضى؟!

ابتسمت وقلت له لأني على يقين أن لديك ما يستحق الكتابة.. إنني أقرأ ذلك في شخصيتك... أنت شاب ومن الجيل الجديد ولا شك أنك تمتلك كفاءة معينة.. مهما كان مرضك إلا أنك تمتلك صفة إيجابية.. هكذا هي الحياة..

دعني أختصر إليك فكرتي أريد أن أكتب مرحلة من حياتك تسمى المرحلة الذهبية... مرحلة الإنجاز...

هل مررت بهكذا مرحلة؟

ابتسم وقال: صدقت.. كأنك تقرأ سيرتي الذاتية.. سأتحدث معك عن بداية إصابتي بداء السكري حتى يتعرف القارئ الكريم على البداية..

قلت له: هذا جيد.. أنا أستمع إليك..

تنهد وصمت قليلا ثم قال:

منذ ولادتي كنت مصابا بداء السكري.. وهو مستمر معي لهذه اللحظة.. هو رفيق يحتاج إلى فن ووعي في التعامل معه.. هو متقلب المزاج ولا يعرف المزاح. لا يعرف الأطفال أو الكبار.. هو داء يتعامل بعنف مع الذين يهملون علاجهم.. حميتهم..

كل هذه الصفات لم أكن أعيها فأنا طفل.. وفي سن الخامسة من عمري انتقلت والدتي للرفيق الأعلى.. لم أكن أعي هذه المرحلة..

أخذني أبي لمنزل جارتنا وكانت سيدة فاضلة تسمى «حوراء» وهي طبيبة أسنان وقد اهتمت بي وعاملتني كما تعامل أبناءها بل أفضل... واستمر هذا الوضع حتى بدأت التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي..

كنت خلال هذه السنوات أتعامل مع السكري بإهمال شديد للأسف...

تخرجت من الثانوية وحصلت على معدل ممتاز. وهذه هي بداية المرحلة الذهبية.. كما تسميها أنت..

قلت له: أنت عبقري..

ضحك وقال عبقري دراسياً ولكن مهمل صحيا..

ابتسمت وقلت: لا تقل هذا..

أنا لا أعلم ظروفك الاجتماعية ولكني أرى شابا لا تزال أمامه الفرصة لتعديل حياته الصحية..

ضحك وقال: دعني أكمل لك قصتي ففيها المفاجآت...

قلت: أنا أستمع إليك..

قال: كان أبي يرغب بأن أصبح طبيبا.. وكان يشجعني للالتحاق بكلية الطب.. كان يقول دخولك هذا المجال سيصنع لك مكانة اجتماعية... وبدأ يشجعني للالتحاق بكلية الطب..

سجلت في جامعة الملك فيصل بالدمام وكتبت الرغبات:

الأولى الطب

الثانية العمارة

الثالثة علم الأحياء

وظهرت النتائج وكانت المفاجأة هي قبولي في كلية الطب..

لم أكن أتوقع هذا القبول..

فرح أبي بذلك.. وصار يناديني باسم الدكتور عمر

وكذلك أبناء المجتمع ينادوني دكتور عمر

كنت أسمعهم ينادوني بهذا الاسم ولكن هناك نفور داخلي... لم أكن متوافقاً مع هذا التخصص.. عندما سجلت الرغبات كانت هذه رغبة والدي ولم تكن رغبتي. ولكن المفاجأة غير المتوقعة هي قبولي بكلية الطب..

بدأت الدراسة.. السنة التحضيرية. كنت أحضر المحاضرات واختبر، واحصل على درجات عالية ولكن هناك نفور من هذا التخصص...

في الفصل الدراسي الثاني اقترح أبي أن أزور قسم الطوارئ لكي أتعايش مع الأجواء الطبية.. وافقت على مضض وتحدثنا مع مدير الطوارئ الذي قال لا بأس.. يمكن أن تبقى معنا مشاهدا فقط..

بقيت في قسم الطوارئ ساعات أرى فيها حالات مختلفة من المرضى.. حالات بسيطة.. ارتفاع حرارة.. وبينما كنت جالسا أشاهد إحدى الحالات.. دخل علينا أحد الآباء حاملا طفلا صغيرا وهو يصرخ أنقذوه. أرجوكم.. لا يموت.

تجمع الأطباء حول ذلك الطفل. كنت معهم أنظر. تغيرت ألوان الطفل إلى اللون الأزرق.. فجأة سقطت مغمى علي..

فتحت عيني.. وجدت نفسي على السرير، كأني أحد المرضى. قلت بهلع ماذا حدث للطفل.

ضحك الطبيب وقال الحمد لله. خرج من هنا بالسلامة.. لكن أنت ماذا حدث لك؟!

ضحك الطبيب.

نزلت من السرير وقد عزمت على تنفيذ القرار..

عدت للمنزل سألني أبي: كيف كان يومك في الطوارئ؟!

أجبته: ذهبت مشاهداً فأصبحت مريضاً...

لم أرغب بسرد التفاصيل...

ذهبت لغرفتي...

بقيت أفكر... هل أنسحب... هل أواصل.... ماذا لو تعثرت مسيرتي الدراسية؟!

أنا لا أرغب في الطب... لماذا أواصل؟

هذا قراري وأنا أتحمل التبعات...

في اليوم الثاني ذهبت لإدارة الجامعة وطلبت منهم تغيير تخصصي من كلية الطب إلى كلية العمارة والتخطيط، سألني الدكتور عن سبب التحويل؟

فقصصت عليه ما جرى عليّ في قسم الطوارئ...

ابتسم وقال: هذا أمر طبيعي، ستتعود عليه في المستقبل، إن معدلك ممتاز ولك مستقبل في كلية الطب، فكر في الأمر ولا تتسرع في اتخاذ قرار قد تندم عليه مستقبلا...

قلت له: أنا لم أدخل كلية الطب بناء على رغبتي... بل بناء على رغبة أبي... ليس لدي ميول طبية، صدقني أخشى أن أستمر في كلية الطب وبعد سنوات أجد نفسي لم أتكيف مع التخصص، وربما لا يمكنني الاستمرار في هذا التخصص... وتكون قد ضاعت مني سنوات...

صار ينظر إلي ويقول: حرام أن تخسر هذه الكلية لمجرد موقف... أنصحك بالتفكير جيداً... لا تتسرع...

خرجت من عنده وفي اليوم الثاني عدت إليه طالباً منه تغيير تخصصي، وإلا سأخرج من الجامعة...

بعد عدة مشاروات مع الإدارة... تم تغيير تخصصي إلى كلية العمارة والتخطيط...

عندما دخلت الكلية شعرت بارتياح... وجدت نفسي في المكان الذي أحبه... وعلي أن أثبت للجميع أن «عمر» مهندس وليس طبيب... أمامي تحدي كبير... لا مجال للفشل... هناك أبي ينتظرني أن أتخرج طبيباً... ماذا لو فشلت في كلية العمارة... شددت الهمة وبدأت الدراسة وحققت أعلى الدرجات...

في الجامعة لاحظت بعض الطلبة يهتمون بتغذيتهم... يحضرون معهم حبة فاكهة... سألت أحدهم لماذا فلان يحضر معه بعض الأغذية كالتفاح مثلاً؟!

أجابني: لأنه مصاب بالسكري...

قلت في نفسي هذا اهتمام مبالغ فيه... طالما هو يأخذ علاج فيمكنه أن يأكل ما يشاء!!

في الحقيقة كنت مصراً أن أبقى على الخطأ...

في نهاية عام 2012 أصبحت بحزن شديد بسبب وفاة جارتنا «د. حوراء» التي تربيت في بيتها وكان السكر قد وصل لمرحلة متقدمة في الارتفاعات فنزل وزني من 120 كيلو إلى 82 كيلو... كانت فترة عصيبة ولكنها توقفت عند هذا الحد...

في الجامعة كانت هناك العديد من الفعاليات والدورات المجانية، ولكن للأسف أغلب الطلاب لا يهتمون بها...

سمعت عن مسابقة «تصميم حر»، فلم أدع الفرصة تفوتني... شاركت في هذه المسابقة وكنت من أشد المنافسين...

طلبتني إدارة الكلية، كنت قلق من هذا الطلب... ماذا حدث حتى تطلبني الإدارة هل هناك شكوى ضدي أم ماذا؟

قال لي الدكتور: هناك خبرين أود أن أقولهما لك الأول خبر مفرح والثاني محزن...

همسة:

أنا مصمم على بلوغ الهدف، فإما أن أنجح، وإما أن أنجح.

للقصة بقية

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف