آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 1:35 م

الآخرون هم الجحيم

كاظم الصالح *

”الآخرون هم الجحيم“ هي واحدة من أشهر الأقوال التي صاغها الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر. وقد ظهرت هذه المقولة ضمن مسرحية ”الأبواب المغلقة“ التي كتبها سارتر عام 1944 م.

عند قراءة هذه المقولة بشكل مباشر، يمكن اعتبارها تصريحاً سلبياً وكآبياً عن طبيعة العلاقات البشرية، فالآخرون في هذا السياق لا يمثلون سوى مصدر للعذاب والجحيم بالنسبة للفرد، وهذا ما يفسر قول سارتر في نهاية المسرحية ”الآخرون هم الجحيم“.

ولكن عند التأمل في فلسفة سارتر الوجودية بشكل أعمق، نجد أن هذه المقولة تحمل دلالات أكثر تعقيداً وعمقاً، وفقاً لسارتر، الإنسان هو كائن حر بطبعه، وهذه الحرية تجعله مسؤولاً عن كل اختياراته وأفعاله، والآخرون في هذا السياق يمثلون المرآة التي يرى فيها الفرد نفسه ويقيم ذاته، فالعلاقة بين الفرد والآخرين هي علاقة صراع ومواجهة مستمرة، حيث يحاول كل طرف فرض وجوده وتحديد هوية الطرف الآخر، وبالتالي، فإن ”الآخرون هم الجحيم“ حسب رؤية سارتر لا تعني أن الآخرين هم مصدر للعذاب فحسب، بل إنها تشير إلى أن وجود الآخرين هو الذي يجعل الفرد مسؤولاً عن ذاته ويفرض عليه ضرورة المواجهة المستمرة، الجحيم هنا ليس خارجياً بل هو جزء من الوجود الإنساني ذاته، وتتضح هذه الفكرة أكثر في مسرحية ”الأبواب المغلقة“ نفسها، حيث يصطف ثلاثة أشخاص في غرفة واحدة، وكل منهم يحاول فرض هويته على الآخرين، وهذا الصراع المستمر هو ما يجعل الغرفة جحيماً بالنسبة لهم، وبالتالي، فإن هذه المقولة في فلسفة سارتر لا تعكس نظرة سلبية للعلاقات البشرية فحسب، بل تعبر عن مركزية الوجود الإنساني والصراع الذاتي الذي يعيشه الفرد في محاولته لتحديد ذاته في مواجهة الآخرين، وهذا ما يجعل هذه المقولة واحدة من أبرز تعبيرات الفلسفة الوجودية التي ترى أن وجود الآخر يشكل تهديداً لحرية الفرد وهويته المستقلة، فعندما ينظر الآخر إلينا، نشعر بأننا موضوعات خاضعة لأحكامه ونظرته، وهذا يثير لدينا مشاعر الاغتراب والقلق الوجودي، إذ نشعر بفقدان السيطرة على ذواتنا، الآخر بهذا المعنى يحد من حريتنا ويفرض علينا قيوداً كما يرى سارتر في فلسفته الوجودية، وعلى الرغم من شهرة مقولة سارتر ”الآخرون هم الجحيم“، إلا أن هناك العديد من الفلاسفة الغربيين الذين انتقدوا هذه النظرة التشاؤمية للعلاقات الاجتماعية، ومن أبرزهم الفيلسوف النمساوي مارتن بوبر، حيث دعا إلى نوع من ”الحوار الوجودي“ بين الأنا والآخر، حيث يتم التفاعل والتواصل الحقيقي من خلال الاعتراف بالآخر كشخص متميز له قيمته الذاتية، لأن العلاقة مع الآخر بحسب بوبر هي أساس الوجود الإنساني، وليس مصدراً للجحيم كما يرى سارتر. كما انتقد الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس نظرة سارتر مؤكداً على أن الآخر ليس تهديداً لوجودي، بل هو ضرورة أخلاقية وأساس للمسؤولية الأخلاقية، فإن مواجهة الآخر هي ما يدفعنا نحو التزام أخلاقي تجاهه، أما الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي فقد انتقد نظرة سارتر كونها تعزز الأنانية والفردانية المفرطة التي سادت في المجتمعات الأوروبية.

في المجمل، فإن هؤلاء الفلاسفة ينتقدون ما يرونه نظرة قاتمة ومبالغ فيها لدى سارتر حول طبيعة العلاقات الاجتماعية، وبدلاً من ذلك، يؤكدون على أهمية الاعتراف بالآخر وتحمل المسؤولية الأخلاقية تجاهه كأساس للوجود الإنساني، وأن مقولة ”الآخرون هم الجحيم“ لا تعكس إلا الجانب السلبي للآخر في فلسفة سارتر الوجودية، باعتباره مصدرًا للقلق والاستلاب الذاتي والاجتماعي.

كاتب مهتم بالفكر والفلسفة، عضو جمعية الفلسفة السعودية