آخر تحديث: 8 / 9 / 2024م - 12:11 ص

العائلة يا نور العائلة

عبد الباري الدخيل *

في الصف الأول الابتدائي وفي يومي الدراسي الأول، اكتشفت أن اسمي ليس نور بل نورية، ليس هذا فقط بل أن أبي ليس أبي، وأمي ليست أمي.

لم يستطع عقلي الصغير أن يستوعب كل هذه المفاجآت، جلست في الصف وكأني ذرة تائهة في صحراء مترامية الأطراف.

جلست في الصف شاردة الذهن، مخطوفة اللون، وقد حاولت المدرسات أكثر من مرة تنبيهي لكنني أحضر ثم أغيب، حتى الحروف والأرقام التي حفظتها وأنا في الرابعة نسيتها، بل ونسيت أنني أحضرت معي قلمًا، وطعامًا للإفطار، وكانت المدرسة تناديني نورية فلا أجيبها، وتسألني عن اسمي فأجيب: نور.

في منزل أبي الذي اكتشفت أنه ليس بأبي علمت جزءًا من القصة، حيث كانت أمي التي أنجبتني على موعد مع سفرة إلى سوريا، وكان السفر آنذاك في الحافلات وكان الطريق شاقًا ومتعبًا، والمسافة من القطيف إلى دمشق تستغرق أكثر من يوم.

اقترحت عليها جارتهم أن أبقى عندها حتى عودتها، حيث أنها متزوجة قريبًا، وليس لديها ما يشغلها، فبذلك تتسلى بي وتريحني من عناء السفر.

وافق أبواي على المقترح وبقيت إذ سافرت العائلة، وطالت سفرتهم من عشرة أيام إلى شهر، فقد بدأت مكاتب السفريات هناك رحلات داخل سوريا «حلب الشهباء، وكسب الجبلية، واللاذقية عروس الساحل…»، ورحلات إلى لبنان وتركيا.

وعندما عادوا كانت جارتهم قد تعلقتْ بي، وألفتْ وجودي، واعتادتْ على دور الأم، فرفضتْ تسليمي لهم، وبقيتُ عندها سنوات لا أعرف أمًا غيرها.

بكتْ أمي أول أيام عودتها لبيتها دوني، وأعادت الطلب مرات، وتوسلت، لكن لا فائدة، ثم أنها انشغلت بأولادها الآخرين، وشيئًا فشيئًا تعودت غيابي. فالإنسان يعتاد أي شيء مع تعاقب الليل والنهار.

صحيح كنت أزور العائلة الأخرى في المناسبات، وكنت أرجع من عندهم سعيدة بما أحصل عليه من هدايا وحلويات، لكن لم تربطني بهم غير هذه الذكريات.

في أول لقاء معه بعد أن علمت أنه أبي خجلت أن أصافحه، واكتفيت بالسلام من بعيد، وعندما عانقتني أمي لم أجد الدفء والحنان الذي أجده عند الأخرى.

اليوم بعد مضي خمسة عشر عامًا على أول يوم عرفت فيه اسمي الحقيقي، جاء الآخر ليقرر مصيري، وبمن أتزوج، وماذا يجب أن أفعل؟

قلت له: الأم هي التي ربتني وليس التي ولدتني.

لكن الشرع والقانون معه، لا يستطيع أي أحد أن يتقدم لخطبتي إلا عبره، وموافقته مهمة حتى قبل موافقتي.

ذات ليلة وكنت قد أقفلت عليَّ غرفتي، جاءت أمي التي ربتني، وجلست تسألني عن حالي، فكان الحزن والتأوه جوابي، أخذتني إلى حضنها، عانقتني، قبّلت رأسي، همست: لست جميلة عندما تحزنين.

رفعت رأسي ثم دفنته في صدرها باكية حزينة، فأمسكت برأسي ومسحت دموعي: يا ابنتي إنك فتاة محظوظة، فلديك بدل الأب اثنان، وبدل الأم أمّان.

يا ابنتي اجعلي العائلة أول أولوياتك، ثم القريب للقلب وليس القريب بالدم، ثم الصديق بمواقفه لا بسني معرفته.

‏فإن العائلة هي الظّل والجناح والأرض الثابتة، لا شيء يؤمّن الحماية كالسياج العائِلي.

اجعلي شعارك دائمًا: ”أبي هو الأمان.. وأمي الدفء والحنان، وأخوتي الحب والسلام“.

واعلمي أنكِ بعيدًا عن العائلة غريبة ولو كنت بين مليون إنسان.

سألتها: ماذا أفعل؟

قالت وهي تبعد خصلة الشعر عن وجهي: استفتي قلبك.

? قلبي مظلم، تائه، ‏متعثر.

? اذهبي لأبيك، وعانقيه واطلبي منه مفتاح السعادة، فبيده مصباح علاء الدين، وفي قلبه كنوز الدنيا.

في الليلة ذاتها ذهبت لبيت أبي، فتحت الباب ودخلت دون استئذان، أزحت العباءة ولم أكن فعلتها من قبل، حاولت أن أعبّر عن قوتي وثقتي بنفسي، فقد ارتديتُ قميصًا مطرزًا بأكمام طويلة، وتنورة باللون اللبني الهادئ، ولبستُ أسورة كبيرة الحجم في اليد، مع سلسلة رقيقة في الرقبة، وتركت خصلات شعري منسدلة أعلى كتفي.

فاجأتهم جميعًا بدخولي على هذه الهيئة، فخرست الألسن، وشلّ التفكير.

لم أمهلهم للعودة من دوّار المفاجأة، حتى تقدمت وصافحت أبي، وقبلت رأسه، واستدرت لأصافح أمي، لكنه أمسك بيدي وجذبني، وعانقني طويلًا، فهزمني الموقف وانهرت وبكيت، وبكينا جميعًا.

وكانت أمي الثانية قد اتصلت بأبي وقالت له: امنحها الثقة والأمان، فلا شيء يشبه أن تكون البنت مع أبيها واثقة مطمئنة.