يكتبون الحب ولا يقترحونه
هل حقا الذين نحبهم لا نجيد الكتابة عنهم أم أنه مجرد هروب أمام استحقاق نخشى مواجهته كما لو نُدفع دفعا كي نرمي أنفسنا من أعلى قمة جبل؟ وهل الكتابة فيمن سواهم تكون رفيعة المستوى؟ وبماذا تختلف الكتابة في حال كان الذين نحبهم داخل أسوارها أو كانوا خارجها؟ وهل ثمة وصف لمثل هذا الاختلاف؟
هذه الأسئلة تركض على مضمار أحاسيسي ومخيلتي اندلعت شرارتها حين فكرت أن أكتب عن هؤلاء الذين كان وجودهم في حياتنا يشبه المظلات التي تقينا حرارة الشمس وبلل الأمطار، عن الذين لولاهم لم نعرف كيف نحب؟ ولم نعرف كيف نفرح! بقدر ما تكون حياتنا مشغولة بهم نكون مشغولين بالكتابة نفسها وهكذا تمضي الحياة متقدمة بخطوات عن الكتابة فيما نحن لا نلتفت ولا ننتبه إلى ما تقترحه المسافة الفاصلة، تلك القائمة بينهما.
امتلاء الحواس بالخبرات اليومية واكتساب الإدراكات القلبية والعقلية والقيمُ التربوية الموروثة جميعها نسميها المسافة الفاصلة، وهنا مكمن المأساة في الكتابة فأنت مهما حاولت أن تمحو هذه المسافة، أو على الأقل تقلص من أبعادها، لن يطالك سوى وهم الوصول، وهو أصعب كثيرا مما لو كنت مقتنعا تماما باستحالة الوصول. المأساة تصبح مضاعفة أكثر حين نصل متأخرين ولا ندرك ماذا يمكن أن تقوله الكتابة عن الذين نحبهم؟!
أما على الذين لا يصلون أبدا وهم في نفس الوقت لا يتوقفون فقط يرمقون سلالهم التي على الأكتاف بين حين وآخر خوفا أن تسقط فاكهة الذكريات وبالتالي ليس بإمكانهم لاحقا أن يقدموا للكلمات الطعام حينما تجوع، عليهم أن يتأكدوا من الأسباب التي تحبس مياه الخطوة في المجرى ومن البوصلة التي في أيديهم حين تخلط الجهات ومن العلامات التي يرسلها المحبون في العالم ولا تضيء معالم الطريق للكتابة ومن الجسر الذي لا يفضي سوى إلى هاوية ومن الالتفات الذي لا يفضي سوى إلى التفات آخر.
الأسباب لا تعني سوى القدر أمام إرادة الإنسان ماكينة الخياطة أمام يدين معوقتين، سباق القفز أمام رياضي مقعد على كرسي، جمال الطبيعة الخلاب أمام رجل أعمى، عاصفة هوجاء أمام نسمة طائر عابر، الأسباب رجل مريض معلول بأمراض مزمنة كلما برق أملُ من الشفاء منها، فاجأه المرض بالحيوية والنشاط، لكن طبيعة تلك الأسباب تختلف من إنسان إلى آخر، البعض يرى الحب في موقف سلوكي يجسده هذا الشخص أو ذاك. البعض الآخر يراه بالعكس في ذات الشخص معزولا عن أي موقف أو سلوك. الأول يجلب الكتابة بسهولة مطلقة إلى ساحته متى ما أراد، أما الآخر يجد صعوبة في استحضارها كلما حاول ذلك.
فالذين يجلبون الكتابة كما يجلبون أغراضهم المنزلية من السوبر ماركت لم يصلوا إلى قاع المعنى فيما تعنيه الإشارة إلى الذين نحبهم من خلال موقف نجسده بالكتابة، وهذه من أقوى الأسباب التي تجعل الكتابة انفعالية لا تأملية قائمة على تراكم التجربة، بينما الأخرى تأتي صعوبة الكتابة من صعوبة الاضطراب في الإمساك بفكرة الحب حينما تكون أنت أمام شخص تحبه ولا ترى الحياة أو العالم إلا من خلاله، وكأن المعادلة الصعبة التي تريد تحقيقها في هذا الإطار هي: السير على الماء بقدمين حافتين دون أن تغرق.
هذا سبب يضاف إلى أسباب أخرى تجعل المطابقة في الوصول بالكتابة إلى العمق حينما نريد أن نكتب عن الذين نحبهم تكون شبه مستحيلة لأن الكشف أو التعرية هو موت آخر داخل الكتابة وخارجها أيضا.
أسباب لا تشبه بعضها، ولا تتصل فيما بينها بنسب أو قرابة، فالعمق فيما نكتب هو عتمة كالحة، خوف دائم من اللحظة، شلل مستمر في أطراف الكتابة ذاتها، لهاث يتصاعد فيما أنت لا تتبين مصدره ولا ترى جهته.
في النهاية لا ترى إلى نفسك في أي جهة من الأعماق، سوى أنك تدرك من خلال مشاعرك أنك واقع في عمق الأشياء، وأن الذين تحبهم يبرقون في سمائك مثل ملاك عابر.