هل انتفت ثنائية المركز والهامش؟!!
كل بلد لا يخلو من ثنائية المركز والهامش، ومهما كانت الوضعية الاجتماعية والثقافية لهذا البلد ومدنه، داخلة ضمن المدن الحديثة أو خارجها، ضمن الحداثة الاجتماعية والثقافية أو خارجها، ستظل هذه الثنائية راسخة الجذور وكأنها قدر المجتمعات في تحولاتها التاريخية رغم الأصوات العالية للباحثين والمفكرين العرب الذين ألغوا هذه الثنائية من تحليلاتهم ودراساتهم الاجتماعية والثقافية، زعما أن تطور المعرفة علميا وفكريا وتاريخيا وآثار هذا التطور على الاجتماع والسياسة والاقتصاد، قد ذوب هذه الثنائية وكل إيديولوجية تقف خلفها.
كانت القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين مدينة جاذبة ومحل استقطاب ليس للمصريين خارج القاهرة فقط، وإنما للعرب جميعا وحتى عند غير العرب أيضا، فقد كان جُلّ رموز الثقافة والفن والأدب والفكر والصحافة يعيشون فيها وسط أجواء من الحرية والانفتاح، ثم في مرحلة لاحقة بعد الخمسينيات الميلادية كانت بيروت هي الحاضن لهذا المركز لأسباب عديدة ليس هنا محل ذكرها.
بيد أن دمشق وبغداد كانتا في وضعية المركز الثقافي والأدبي بالنسبة للعالم العربي رغم التقلبات السياسية التي طالت معظم فتراته التاريخية.
ينفي أصحاب مقولة ذوبان هذه الثنائية أن تكون المجتمعات العربية ومدنها، في لحظتها الراهنة، تخضع لمؤثرات هذه الثنائية كما كان في السابق لأسباب من أهمها كما قلنا تطور المجتمعات بالخصوص التعليمي والمعرفي والاقتصادي والثقافي كما هو حال المدن الخليجية الجاذبة باعتبارها تحقق كل هذه المجالات من التطور، لكنها في الوقت نفسه لا يمكن إغفال أن هناك مراكز متعددة وليس واحدا فقط.
قد يبدو هذا المنظور صحيحا من جهة التحولات التاريخية للمدن، ومن ينظر إلى تاريخ المدن في العالم الأوروبي على سبيل المثال يجد هذا التحول ماثلا أمامه، كانت لندن مركزا في المجال الصناعي والفكري السياسي ثم كانت باريس بعد الثورة مركزا للتطور الفكري والفلسفي وهكذا.
لكن ما لا يبدو صحيحا أن يتم إلغاء هذه الثنائية إذا ما أردنا أن نسلط الضوء ونضع كشافا حول شبكة العلاقات التي تحكم المجتمع الواحد خارج نطاق المقارنة بين المدن في بلدان مختلفة.
ودعوني استدعي المشهد الثقافي في المملكة كمثال على فاعلية هذه الثنائية.
أن شبكة العلاقات التي تُصنع من خلال الارتباط الثقافي والأدبي عبر المؤسسات الرسمية والمؤسسات الأهلية الناشطة تُدار من طرف المثقفين والأدباء والمهتمين بهذا الشأن من إداريين وموظفين ومتابعين وأصحاب قرار.
وعليه ووفق شروط هذه الشبكة نجد أن مبدأ الفرص للظهور أو الانتشار أو الدعم الذي يحصل عليه المثقف أو المبدع خاضع بالدرجة الأولى على قربه أو بعده عن المركز أي العاصمة «الرياض»، قد لا يبدو هذا الخضوع مقصودا، فاستراتيجية وزارة الثقافة في سياستها العليا تدفع بالفرص وتمنحها بالتساوي للجميع سواء كان المثقف والمبدع داخل العاصمة أو خارجها، لكن هذا الخضوع له جانبان: الأول ذاتي يتعلق بالمبدع أو المثقف ذاته، والآخر موضوعي يفرضه وعي الدولة في موقفها من الثقافة والانفتاح بها على العالم. هناك مثقفون وأدباء يعيشون في مناطق نائية ولا يعرفون شيئا عن معنى التواصل في إبراز أنفسهم وتقديم ما ينتجونه من معرفة وإبداع، على الرغم أننا نعيش في زمن السوشل ميديا وإن عرفوا فهم لا يريدون لحواجز نفسية وتربويّة وشخصية جّل أسبابها تتعلق عندهم بالنظرة إلى المسافة الفاصلة بين المنطقة التي يعيش فيها والعاصمة، بينما من يعيش في قلب العاصمة لا يشعر بذلك ولا يعيشه على الإطلاق، أما الجانب الموضوعي فهو يعتمد على العرض والطلب.
التحليل يعود بي وإن كان بطريقة غير مباشرة إلى تلك الثنائية التي يصعب الاستغناء عنها كليا.