مدرسة الغالي
أمشي في طريقي لعيادتي ضمن مستشفى (مايو كلينك)، أمسك بكوب القهوة، وأستمع لدعاء الصباح من هاتفي عبر سماعات الأذن.
استوقفني شاب عمره قريب من عمري يسألني عن طبيب اسمه حسين (Excuse me, do you know where is Dr. Hussain?)
قلت: أنا دكتور حسين (I’m Dr. Hussain)
صافحني وأطال النظر إلي، ثم سألني باللغة العربية: ما عرفتني؟
قلت: لا، أي خدمة؟
? أنا فراس زميلك في مدرسة الغالي.
? ”فراسوه ولد الأستاذ؟“
? ”هو بزاتوه“
? تعانقنا طويلًا، وأمطرت الذكريات بغزارة: ”يا الله منين طلعت لي؟“
? ”بابا هون.، تعبان كتير.. عنده أزمة قلبية وضغط وسكر وشلل رعاشي، وقالوا لي الموضوع عندك“.
? لا تحمل هم، أنت روح ارتاح وأنا أطّلع على ملفه وإن شاء الله أمر عليكم الغرفة.. تطمن.
جلست في مكتبي أتأمّل الاسم، وأتذكر مدرسة الغالي، وأول سؤال بدر في ذهني: ماذا كان ذنبنا لنتلقى الضرب بهذه القسوة؟
**
عُرفتْ مدرسة المهلب بن أبي صفرة بمدرسة الغالي نسبة لاسم الأرض التي أقيمت عليها، وتقع في طرف القرية بعيدًا عن الأحياء ووسط بساتين النخيل.
بنيت المدرسة من البيوت الجاهزة (برتبل)، من دور واحد على شكل (T) تتقاسم غرفها الفصول وغرف الإدارة ودورات المياه.
كانت أصعب أيام دراستنا عندما كان المدرس مطلق اليد في إيذاء الطلاب، بالضرب والسب والإهانة.
كان من ضمنهم هذا الأستاذ، أبو فراس، لم يكن إنسانًا بل كان حيوانًا مفترسًا، لا يحمل بين جنبيه قلبًا بل حجرًا، يتلذذ بتعذيبنا، وشتمنا، وتوجيه أسوأ الألفاظ التي لم نسمعها.
كانت (الفلقة) من أسهل أدوات التعذيب، فهناك الأسوأ، وهو إشباع غرور العظمة بانكسار الطالب وبكائه.
ذات يوم ضربني بحدّ المسطرة على أطراف أصابعي، فهربت من وجبة التعذيب بتمثيل البكاء، فتركني وابتسامة النصر تعلو وجهه.
أما صديقي (عيسى) فلم يبكِ، ولذا أمسكه المدرس من شفته السفلى، وجعل يسحبها ويشتمه حتى سال دمه.
ووضع بين أصابع زميلنا (مهدي) قلم الرصاص وضغط عليه حتى بال في ثيابه من الألم.
بعض العقاب لكوننا نخطئ تحت سياط الرهبة، وبعضها لأنه يريد أن يمارس التعذيب ويتلذذ به.
من ذكرياتي أن مدرس الرياضيات (شوكت) كان يمتحننا بالإجابة السريعة عن أسئلة جدول الضرب، وعندما أخطأ زميلنا (جعفر) ضربه في أذنه فأوقعه على الأرض، واستمر الطنين في أدنه حتى فقد السمع.
أبو فراس كان يعيّرنا بفقرنا، فملابسنا مرقعة، ووجوهنا سمراء، وشعرنا مهمل، ويشتمنا بأننا رجعيون، متخلفون، أغبياء، ويصفنا بالثيران والبقر، وأننا لن نفلح ولن ننجح.
في المرحلة المتوسطة انتقلنا لمدرسة جديدة، ومدرسون جدد، وأسلوب تعليمي مختلف، تعامل معنا المدرسون بإنسانية، ووجدنا دعمًا وتشجيعًا خلق لدينا دافعًا للتفوق والتميّز، وتواصل هذا الدعم حتى تخرجنا من الثانوية بروح وثّابة، وأحلام بمستقبل منير.
**
وقفت أمام مدرسي في مرحلة الابتدائية وهو عجوز أنهكته الحياة، وأتعبه المرض، وتحدثت معه باللغة العربية، فسألني: من أين أنت؟
قلت: من الثيران والبقر الذين وصفتهم ذات يوم بأنهم لن يفلحوا.
قال: مش فاكر؟
فأكملت: لولا أنني أخاف الله لانتقمت منك لأنك لم تخف الله فينا.