الحوزات العلمية من إنتاج الفقهاء إلى المعرفة المتخصصة.
كل جيل ينال من المعرفة أكثر ممن سبقه، المعرفة كائن لا يتوقف عن النمو؛ ولهذا لكل زمان وعيه، ولكل مجتمع عقله، ولكل عقل سماؤه وأرضه، وحدا يبلغه وينتهي إليه. لا يُدرك ما بعده، ولا يحيط علما بما تجاوزه.
لا نقصا فيمن تقدم، ولا نبوغا لمن جاء بعده، ولكنها سنة الله في خلقه، أن لكل عقل وعي بمقدار زمانه، وإن تباعد عنه بقدر، وإن لكل معرفة زمانها، وإن تخطت عنها بقدر..، لكل معرفة خاتمة في زمانها، ولكل زمان أنهار معارفه وخواتيمها.
الحوزة العلمية مثقلة بألف عام من السير المضني، والصيرورة العسيرة، والتحول الشاق..! تعالت بنوابغها ومفكريها، وأغمضت عينها عامدة عن ما يتردى، مستعينة على ضعفها بقوة يقين المؤمنين بها، فاعلة إن شاءت وقليلا ما تشاء..!. مسلمة نفسها إلى محيطها وبيئتها، ونازعة إياها في آن.
ولأني لستٌ حامل تأويل مسبق، ولا أبتغي القراءة النقدية لهذه المؤسسة الدينية العريقة فيما لها وما عليها، ولا نسب لي يجمعني مع «المنزهة لها عن كل عيب» ولا أنتمي إلى «المدنسة لها» التي تجردها من كل خير وفضيلة.
الذي أره اليوم وجوب أن يكون «الغاية والموضوع المعرفي للطالب» هو الذي يحدد منهجه التعليمي..!، والغاية المعرفية هي التي تختار مقدماتها، لأن العدد الأكبر من «طلبة العلوم الدينية» اليوم ليست غايتهم «الاجتهاد». إلا أنهم يفرض عليهم البقاء في تعلم مقدماته، وهو تعليم لا سبيل لإغلاقه ولا بلوغ خاتمته..!.
وإن هذا الطريق الطويل الذي يستوعب عمره يجرده من نبوغه اللائق به، ويحرمه من كماله، لانشغاله بالمسالك المؤدية للاستنباط وهي ليست من شواغل عقله، ولا تنتمي إلى وظيفته الاجتماعية وما هو عليه في مجتمعه.
يكفي أن يحيط بها إحاطة العارف لا إحاطة الفقيه السالك إلى إتمام فقاهته، وأن يتفرغ لواحدة من المعارف المتخصصة التابعة للحوزة العلمية، وفق منهج علمي صحيح ومتين، ينتج به فقهاء في التفسير، وعلماء العرفان، وعلماء الرواية، وعلماء العقائد، كما يتم تأهيل الوعاظ والخطباء تأهيلا يرفعهم لمستوى وعي الخطاب الديني وعمق تأثيره، وترفع عقولهم إلى معرفة العقائد الصحيحة، والقدرة على تمييز الصحيح والساقط من الرواية والحديث، وما يجوز وما لا يجوز من العقائد.
وثمة ضرورة لتصويب لسان رجل الدين، ورفع مستوى المفردات والخطاب على مستوى العام والخاص، البلاغة اللغوية، والعمق المعرفي، والوعي الاجتماعي، دراسة مناهج البحث العلمي، والفلسفات المعاصرة، ووعي الحاضر.
حاجات المجتمع تتغير، والشطح الظاهر في الخطاب الديني معيب مخجل، ومستوى خطاب بعض الكبار في الحوزة على مستوى اللغة والأسلوب والمفردة، والغربة عن الواقع، وتواضع مستوى الوعي الاجتماعي والسلوكي لا يمكن قبوله ويفرض تجاوز المجاملة، بمقدار ما يفرض تجاوز النرجسية الذاتية لبعض المنتمين لهذه المؤسسة، كما تفرض تجاوز «عدم المشيئة المزمنة لدى بعض المرجعيات الدينية» بذريعة انحصار وظيفتها في الفتوى ولا تملك القدرة على تجاوزها، متخلية عن الفتوى العملية بما له إصلاح واقع الناس.
لا أحد يعيش في مكان شحيح الضوء اليوم..! لا أحد يشيع سرا في عالم الخطابة في الفضائيات العابرة للقارات، لا أحد بوسعه أن يستر جهلا يجاهر به صاحبه فوق منبر..!
لا أحد يتصور جواز صرف رواتب على تعليم مقدمات الاجتهاد لمن لا يبتغي الوصول إليه، أو العاجز عنه! وحرمانه منه أن تفرغ للبحث والكتابة، أو اتخذ له سبيلا من سبل المعرفة الدينية المتخصصة، وبما ينتهي إليه منهاج البحث العلمي من إنتاج فقهاء في التفسير، وفقهاء في علوم القرآن، وفقهاء في العرفان وفلسفته، والتفرغ للإنتاج المعرفي وفق منهاج البحث العلمي.
وبذا تتحول الحوزة إلى دائرة أوسع من إنتاج المجتهد حصرا إلى إنتاج علماء في معارف متخصصة، وفي إعادة تكوين وإنتاج الوعي والمعرفة الدينية المتخصصة.
وهذا ما نبتغي رؤيته في الحوزات الدينية، وتطوير مناهجها، والبلوغ إليه.