آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:09 م

الطواف نحو السكينة

نسيمة السادة *

الأعمال الشعائرية تحمل رمزية في طياتها وغاياتها تتجاوز الأهداف الفسيولوجية إلى السيكولوجية الروحية والتأملية، تحمل المعنى من عالم الشهود إلى عالم الوجود،

لا أتذكر عدد مرات العمرة التي أديتها في حياتي ولله الحمد والمنة ولنعمة كوننا من هذه الأرض الطيبة. وفي كل مرة أدخل في لحظات تأمل وتفكر، وفي كل طواف وكل عمل أقوم به - وفي كل مرة - من شعائر العمرة له طعم وله معنى جديد ينكشف بحسب ما وصلت إليه نفسي من نضج وطمأنينة.

مسيرة دائرية حول بناء مقدس يرمز له «ببيت الله» وهو أبعد من أن يكون بيتًا كما للبشر من بيوت - سبحانه وتعالى - عن ذلك فبيته هو قلب كل مؤمن يطوف حوله، مسار دائري وقد يكون بيضاويًا حسب الازدحام وحركة الأمواج البشرية، يدخل بين عبابه القاصد ليسير باتجاه واحد، يفقد فيه الإنسان كل خصوصيته المكانية ومنطقة راحته، فهو المكان الوحيد الذي يلامس فيه كل جسدي كل هذه الأجساد من رجال ونساء، ومن كل العالم دونما شعور بأي انتهاك. تستمع خلالها إلى همهمات ودعاء جهور وذكر بكل اللغات، نشهد في هذا الموج عوالم من ألوان وألسنة وروائح تستنفر كل حواسك المشتعلة، تصارع فيها نحو تركيز عميق وشعائري في ظل كل هذه المشتتات، ما أن تصل بتعب إلى لحظات تأمل عميقة، حتى يخرجك منه صوت جهوري يقول - احنا بالطواف، أدخل من باب الملك فهد وخذ يمينك...

تمضي قليلًا بروحك إلى محاولة أخرى لتستجمع ما تبدد من خشوع، فيستوقف مسيرتك حاج واقف في مقابل الكعبة يبحث بكاميرا هاتفية على زاوية مناسبة تكون الكعبة ظاهرة خلفه ليلتقط صورة مرضية، فيقف شامخًا في مقابل موج البشر، فنعصر ونزاحم ونُضغط فتخرج من حالة خشوعك إلى التفكير في طريقة للخروج من هذا المأزق.

نحاول مرة أخرى لترجع إلى حالة الطمأنينة في طوافك ولتستجمع أفكارك، وتقدم حاجاتك بين يدي جبار السماء، وتحاول أن تلملم ما تبدد، فتقابلك يد مرفوعة بجهاز الهاتف المحمول لمعتمر ينقل عمرته وطوافه على الهواء مباشرة لكل عشيرته لعله يدخلهم الأجواء المميزة في المدينة المقدسة، وبدعاء صاخب وتأمينِ من كل البشر الذي يرونه عبر الأثير من وراء البحار، والذين لم يستطيعوا اللحاق به في هذه البقعة الطاهرة.

وتدفعك الأمواج بعيدًا عنه، ومرة أخرى تقطع سكينتك رائحة من هنا، ويد متحرشة من هناك وعصرة بشرية تحملك بخطوات خفيفة حتى تكاد أقدامك تلامس الأرض.

حينها بدأت أفكر لماذا؟ وما هي الحكمة؟ وما هي الرمزية لكل هذا؟ وأين مكمن اللذة الروحية؟

الطواف مسيرة حياة البشر، رغبتنا بالسير نحو الحق والهدى وعوالم من التشتت تسحبنا عنها لنجاهد ونجتهد، هل لدينا الرغبة في العودة في طريق الله بعد كل مشتت؟ هل نستطيع التغلب على كل المغريات والمشتتات التي تحيط بنا، ونغالب للدخول في دائرة سكينة النفس؟ هل سيكون دعاء العتق من النار أولى من دعاء طلب الرزق؟ هل سنتمكن بأن ننظر لمن حولنا من البشر كعيال الله وأحبائه دونما شعور بالاستنقاص والغضب والدونية؟ هل ستؤثر الآخرين لحاجتهم لمكانك أو بخطواتك، هل لديك الاستعداد أن تفسح الطريق لمن هم أكثر وأحوج منك؟ أكاد أجزم بأن هذا مستحيل.

وهنا تكمن بشريتنا وقوتنا، الإيمان بعد الكفر والاستغفار بعد الذنب، التوبة بعد العصيان، وبهذا تدرج الأنبياء والصالحون في مسيرة التقدم والإيمان والبحث والتطوير في عوالم النفس المعجزة تارة بالعزلة وهو الطريق الأسهل وتارة في وسط المجتمع بكل تقلباته ومغرياته. هل نستطيع التمسك بكل القيم والمبادئ التي نؤمن بها أم تجرفنا تيارات التيه، فنضيع في زحمة الاستهلاك والرغبات. نفقد في كثير من الأحيان خصوصياتنا، نتحمل فيه بإرادتنا أو بغيرها تصرفات من حولنا وعواقب أفعالهم، نساهم شئنا أم أبينا، بل ومن مسؤولياتنا إرشادهم أو حتى إنقاذ حياتهم أحيانًا. ترى نفسك مسؤولًا عن شخص لا يمت لك بصلة قد تراه، وفي أغلب الأحيان لمرة أولى وأخيرة في حياتك، بل قد تشعر بشيء من المسؤولية تجاه محتاج أو مظلوم في أقصى بقاع الأرض.

لكنها الإنسانية يا سادة، القوة المزروعة في أرواحنا والتي أُسجدت الملائكة لها، الطمأنينة المنشودة لكائن خلق متوترًا، البحث الدائم للوصول إلى السلام الداخلي، والذي أضعناه في زحمة الحياة، الشوق إلى سكينة الروح، فهلا نرجع إليها؟؟؟