القراءة ونشوة المعرفة
عندما يمسك أحدنا بدفتي كتاب فإن أمله أن يعوض ما دفعه من مال قيمةً للكتاب من خلال أمور متعددة؛ إما بأن يجد فيه إجابات عن أسئلة طالما جالت في رأسه وحيَّرته، أو عن أسئلة تبدأ من ذاته وأعماق نفسه ولا تنتهي بالغيبيات وما وراء الكون، مرورًا بتفسيرات لما صادفه من أحداث كبرى أو صغرى.
هذه الأسئلة التي تبدأ منذ الصغر كلما اكتشف حلًّا لأحدها جرّه إلى آخر أكثر عمقًا، وكلما شعر أنه «علِم» سرعان ما يكتشف أن هناك ما يجهله. فما إن يسعى نحو إجابة ثم يعتقد بأنه قد حصل عليها، حتى تنهال عليه أسئلة جديدة لم تكن تخطر بباله من قبل. وهكذا يستمر الحال في أسئلة تستحث أجوبة، تستحث بدورها أسئلة جديدة، في حركة دؤوب لا تنتهي.
وبين جولة من الأسئلة وأخرى، وبعد شعور ربما قصير بنشوة المعرفة، تتحول النشوة أحيانًا إلى ألم من نوع خاص هو ألم المعرفة، أو ألم الإدراك، الذي لا يشعر به سوى من سار على جادة المعرفة، كما وصفه الشاعر بقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله - وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
أجاء القلق فعلًا من المعرفة أم من صدمة الشعور بالجهل؟ أم إن ”إدراك الإنسان لجهله يعد شكلًا من أشكال المعرفة“ كما قال الكاتب النرويجي جوستاين غاردر؟ أم إنه جاء من الشعور بوجود الاختلاف والحيرة الناجمة عنه؟ أم تراه أمرًا طبيعيًّا يدهم المرء من جراء مواجهة الأمور الجديدة؟
وتتعدد صور التعبير عن نشوة المعرفة من شخص لآخر؛ فمنهم من يلوذ بالصمت تجاهها، ومنهم من يعبر عنها بابتسامة، وثالث بضحكة، ورابع بقفزة في الهواء، وخامس بصرخة عالية «وجدتها» كما فعلها أرخميدس حينما اكتشف قانون الطفو.
ورغم أن محبي القراءة تتكالب عليهم الأسئلة أكثر من غيرهم، بحيث تكون عبئًا على بعضهم وبهجة خالصة لآخرين، فإن أغلبهم لا يكاد يتوقف عنها، إما طمعًا في المزيد أو لكونها أشبه بحالة عدم ارتواء، أو لأنها تجعل منه كشارب ماء البحر، أو كالراكض وراء السراب من أجل الوصول إلى ماء ولن يصل إليه أبدًا.
* لا يوجد ترفيه أرخص من القراءة، كما لا توجد متعة تستمر كالقراءة. ميري مونتاغو