مذكرات أمل «18»
خرجت من المركز متجهة للبيت وأنا أفكر فيما قدمته من إنجازات في المركز مع الطالبات والزميلات.. ولازلت أتذكر نصائحي لبعض الطالبات اللاتي كن يمارسن سلوكيات خاطئة بعضها عن جهل وبعضها عن تقصير من عوائلهن... قلت الحمد لله لقد قمت ببعض المسؤولية تجاههن.
وصلت للبيت، مسحت دموعي.. سلمت على أمي وقلت لها: لقد اتصل بي أحد الأطباء... لقد توفر سرير وسوف أذهب للمستشفى يوم الأحد لإجراء العملية.
نظرت لي أمي وقالت: لكني قلقة عليك... هل أنت جادة في قرارك، ألا يكون قرارك متسرع؟!
قلت: أمي.. قراري متسرع!
كيف ذلك يا أمي.. هل تعلمين كم عدد مرات تغيير القسطرة طيلة هذه السنوات الإثنى عشر. نعم يا أمي إثنى عشر سنة وأنا أعاني وأعاني من المواعيد والالتهابات.
هل تعلمين يا أمي أنني غيرت القسطرة أكثر من 288 مرة خلال هذه السنوات. ألا يجدر بي أن أضع حدا لهذه المعاناة..
لقد قررت يا أمي ولن أتراجع عن قراري.. أريد أن أعيش حياتي كبقية البشر...
تساقطت دموعي كتساقط المطر.
جاءت أمي ومسحت على رأسي وقالت لا تبكي يا حبيبتي.. لك ما تريدين..
جاء أبي وقال نعم يا أمل لك حرية التصرف فهذه حياتك..
قلت سأرتاح قليلا في غرفتي...
في المساء جاءت أمي.. كنت قد بدأت إعداد حقيبتي.
قالت: ما هذه الحقيبة يا أمل هل أنت مسافرة؟! فقط أيام وتعودين بالسلامة، لماذا كل هذه الأغراض وهذه الملابس؟!
قلت يا أمي لا أحب أن استخدام أي غرض من المستشفى.. هذه ملابسي... لن ألبس ملابس المستشفى..
قالت أمي ولكنها ملابس معقمة.. لا تخافي منها..
قلت يا حبيبتي يا أمي دعيني أضع في الحقيبة ما أحتاجه..
قالت أمي.. سوف أساعدك في ترتيب الأغراض..
بدأت وأمي نضع ما أحتاجه من ملابس وأغراض.. حتى أصبحت الحقيبة جاهزة..
قالت أمي ألن تأكلي شيئا..
قلت لقد نسيت أنا لم أتناول وجبة الغذاء...
آسفة يا أمي.. هيا لنتناول وجبة العشاء..
بقيت يوم الجمعة مع عائلتي نتحدث في مواضيع وذكريات شتى.. في الحقيقة كنت أشعر بقلق.. ولكن كنت أتظاهر بالاستقرار...
كانت أمي تنظر إليّ وهي تشعر بما أشعر به...
كانت ساعات يوم السبت طويلة، كنت أرغب أن أحرك عقارب الساعة لينتهي ذلك اليوم..
أخيراً جاءت ليلة الأحد.. قلت هذه الليلة هي آخر ليلة.. نظرت لغرفتي.. مكتبتي.. ملابسي.. سريري.. قلت: هل سألتقي بكم مرة أخرى..
سقطت دموعي.
استلقيت على سريري وقلت ربما هذه اخر ليلة أنام عليك.. شكرا لك، واسمح لي إن كنت ثقيلة عليك، ضحكت.. ولكني أعدك ان أنقص من وزني عندما أخرج من العملية...
في يوم الأحد 16/7/2017 لا أنسى هذا التاريخ
كان غذائنا وجبة سمك مطفي ومحمر... كانت والدتي تعرف أني أحب هذه الوجبة، لذلك اجتهدت في أن تكون هذه الوجبة ضمن مسلسل ذلك اليوم...
تناولنا الغذاء...
وجلست أنتظر ساعات العصر حتى تنتهي... لا أعلم لماذا ساعات الانتظار تكون طويلة...
كلما اقتربت الساعة إلى ساعة المغادرة تزداد ضربات قلبي...
ها قد وصلت الساعة السادسة...
أخرجت الشغالة شنطتي للخارج...
شكرتها...
نظرت للبيت ولكل زاوية منه نظرة وداع... نظرت لأخي خالد... أختي زجل... سألتهما هل ستذهبا معي...
أجابا بدموعهما...
قلت: أعرف أن هذه الساعات صعبة... لم أستطع إكمال بقية الحديث...
خرجت من البيت وجدت أبي ينتظرني... نظرت إليه... اغرورقت عيني بالدموع... سلمت عليه وقبلت يديه... وقلت: أبي... سا... محني...
بقي صامتا للحظات... ثم قال: أنت حبيبتي... سأدعو ربي أن يحفظك ويعافيك...
خذي هذا المصحف سيكون رفيقك في هذه الرحلة...
جاءت أمي... نظرت إلينا... وقالت هل... نذهب...
صعدت السيارة التي كانت مجهزة بمصعد كهربائي... نظرت لأبي وقلت: لن أنس جهودك معي...
تحركت السيارة... كنت أنظر من النافذة... هذه المناظر التي ألفتها... ولكن لماذا يبدو الشارع طويلاً... لا يوجد ازدحام كالمعتاد... ولكن الطريق طويل...
قالت أمي: ما بك يا أمل لماذا أنت صامتة؟!
قلت: لا أعلم... ماذا أقول... لا أعلم ما ينتظرني يا أمي...
قالت أمي: تنتظرك العافية يا ابنتي...
وصلنا المستشفى وصعدنا لقسم التنويم بالدور الرابع... كنا قد أنهينا إجراءات الدخول منذ الصباح... ولذلك كان الدخول للقسم سهلا...
وصلت استقبال القسم... قلت لهم: أنا أمل...
قالت الممرضة: وأنا اسمي فاطمة... أهلا بك نحن ننتظرك... سريرك جاهز... يمكنك الدخول للغرفة...
دخلت الغرفة... شعرت بأن الرحلة قد بدأت... داخلني الخوف...
أحضرت الممرضة ثوب المستشفى...
رفضت أن ألبسه... قلت: لا لن ألبسه، هذا الثوب لبسته مليون مريضة... لن ألبسه...
قالت أمي يا أمل الثوب معقم لا تقلقي.
قالت الممرضة هذه إجراءات الدخول لقسم التنويم... أرجوك ألبسيه... وتوكلي على الله...
قلت لهم سألبسه على بجامتي.
ضحكت الممرضة وقالت: اصنعي ما يحلو لك.
بمجرد أن لبسته شعرت أني بدأت المشوار... ما هو المستقبل... ماذا سيكون مصيري... هل...
بقيت معي أمي حتى انتهاء وقت الزيارة ثم ودعتني وقالت سأزورك غدا... لا تقلقي...
نظرت إليها تمنيت أن تنام معي... ولكن في مثل حالتي لا يسمح لي بمرافق...
خرجت أمي...
ناديتها أمي... أمي... أدعو لي
نظرت لي ودموعها على خدها... لم تستطع الكلام... فقط أومأت برأسها... وخرجت...
أردت أنا أناديها مرة أخرى...
جلست لحظات بمفردي...
الوحدة مخيفة... مخيفة...
جاءت الممرضة وقالت: لنأخذ العلامات الحيوية... ونكمل بقية الإجراءات غداً صباحاً...
سألتني هل أنت خائفة؟!
قلت: لا... لا ولماذا الخوف....
اصطنعت ابتسامة...
قالت الممرضة: كل شيء سيكون على ما يرام... عندما تحتاجين أي مساعدة... فقط اضغطي على الجرس...
شكرتها...
صرت أتصفح رسائل الواتساب...
وجدت رسالة وفاء فتحتها..." أسأل الله العلي القدير أن يجعل مساءكم بداية لكل شيء جميل، وطريق مفتوح لتحقيق الأماني والأحلام، والسعادة التي تملأ أرواحكم النقية الطاهرة، وأن يرزقكم فرحة وابتسامة لا تزول.
رددت عليها: أيتها الوفاء... شكراً لك... هذه هي أول ليلة لي بالمستشفى وأتمنى أن تدعو لي بالصحة والعافية... أنت إنسانة نقية كوالدتك... تصبحين على خير وسلامي للخالة أم عبدالله...
في الصباح جاء الفريق الطبي: د. أسامة، د. جمانة وبعض الأطباء...
قال الدكتور أسامة كيف حالك يا أمل... هل نمت جيداً...
أجبته: الحمد لله...
قالت الدكتورة جمانة سنكمل بقية الفحوصات المخبرية... سنعمل لك تحاليل خاصة بالمسالك البولية ونتمنى أن لا يكون معك أي التهاب بكتيري... في حال كانت النتيجة سليمة ستكون العملية يوم الثلاثاء...
قلت أبهذه السرعة...
ابتسم الدكتور أسامة وقال: أليست هذه رغبتك؟!
قلت: نعم ولكن... لم أتوقع أن تكون بهذه السرعة...
قالت الدكتورة جمانة: ننتظر نتيجة التحليل... لا تقلقي... هيا كوني مستعدة ستأخذ منك الممرضة بعض التحاليل وعينات البول... أتمنى لك الصحة والعافية.
غادر الفريق الطبي
ناديت دكتور جمانة..
اقتربت مني...
قلت لها: أثق بكم...
ابتسمت الدكتور... مسكت يدي وقالت: توكلي على الله...
أخذت الممرضة عينات الدم والبول...
في نهاية الدوام جاء الفريق الطبي مرة أخرى...
قال الدكتور أسامة.. عدنا مرة أخرى إليك... لقد ظهرت نتيجة التحليل...
قلت له: هل هي سليمة...
قالت الدكتورة جمانة: لديك التهاب بكتيري وهذا يجعلنا نؤجل العملية حتى تتعافي منه...
سألتها هل سأخرج من المستشفى...
قال الدكتور: كلا ستبقين معنا... ستأخذين مضاداً حيوياً... وبعدها نعيد التحليل وستكون النتيجة بإذن الله سليمة... نريد أن تكوني هنا معنا... هذا أفضل...
نظرت للدكتورة جمانة...
قالت: نعم هذا أفضل... لتكون مستعدة...
غادر الفريق الطبي...
اتصلت بأمي وأخبرتها بتأجيل العملية بسبب وجود التهاب بكتيري.
قالت: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: آية 29] كل شيء بمشيئة الله، سوف أزورك اليوم مع إخوانك... لا تقلقي...
عندما جاءت والدتي لزيارتي سألتها: أمي هل تعرفين إحدى الممرضات وطلبتي منها أن تهتم بي، إنهم يهتمون بي اهتماما بالغا...
قالت ربما صديقتك سميرة طلبت منهم ذلك؟
قلت: سميرة لا تعلم بوجودي... وهي في إجازة هذا الأسبوع، لقد أخبرتني من قبل عندما قلت لها أني سأدخل المستشفى...
قالت أمي: إذاً هذا لطف من الله، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: آية 96].
قلت الحمد لله...
انتهت فترة العلاج بالمضاد، وتم إعادة التحاليل وكانت النتيجة سليمة...
جاء الدكتور أسامة مع الدكتورة جمانة والفريق الطبي...
قال الدكتور أسامة: غدا العملية هل أنت مستعدة...
قلت: ن نع م م نع م..
ضحك الدكتور وقال: ولماذا تقوليها هكذا بحروف مقطعة...
قالت: نعم... أنا مستعدة ولكني كنت متفاجئة... نعم مستعدة...
قال توكلنا على الله... غداً صباحاً...
لم تتكلم الدكتور جمانة...
نظرت إليها...
قلت لها هل تسمحين لي دكتورة بطلب...
قالت تفضلي... اطلبي...
قلت: كوني معي في العملية...
مسكت يدي وقالت: إن شاء الله، سأكون معك.
رأيت عينها قد اغرورقت بالدموع ولكنها كانت متماسكة... بينما دموعي صارت تجري بلا إرادة مني...
قالت: كوني شجاعة...
غادر الأطباء...
كانت ليلة العملية ليلة طويلة.. بين لحظة وأخرى تأتي الممرضة تطمئن عليّ... لم أستطع النوم... التفكير يأخذني يمنة ويسرى...
الساعة الواحدة أغمضت عيني... ولكنها لم تكن نومة طويلة كما كنت أتمنى... استيقظت عند الساعة الثالثة...
أخذت القرآن وبدأت أقرأ سورة البقرة، قراءة الخشوع والطمأنينة والتأمل في الآيات، أقف عند آيات صفات المتقين، آيات الصبر، الصلاة، الحج، الصدقة... اتأمل هل كانت عبادتي خالصة لوجه الله تعالى... وصلت لآخر السورة فصرت أردد: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: آية 286] ودموعي تجري على خدي... صرت أدعو ربي بكلمات الدعاء أطلب منه المغفرة والرحمة، ”يا رَبِّ ارْحَمْ شِدَّةَ ضُرِّي وَفُكَّنِي مِنْ شَدِّ وَثاقِي، يا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَنِي، وَرِقَّةَ جِلْدِي وَدِقَّةَ عَظْمِي، يامَنْ بَدَأَ خَلْقِي وَذِكْرِي وَتَرْبِيَتِي وَبِرِّي وَتَغْذِيَتِي“
صرت أبكي وأطلب من الله العفو والمغفرة... سمعت أذان الفجر... صليت الفجر ولا أزال في حالة البكاء... دموعي لا تتوقف....
همسة أمل:
القلب العامر بالإيمان والخاشع بالصلاة والصابر بالتوكل على الله سيظل قلب حي لا يموت.
للقصة بقية