آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

أفول نجم الزمن الجميل.. «حدثٌ وحديثٌ - 69»

عبد الله أمان

كَثيرًا مَا يَتشدّق المُغرّدون المُعاصرون بحُرقةٍ؛ ويَتحذْلق المْسنّون الطيّبون باشتِياقٍ مُماثلٍ - بين الفَينةِ والأُخرى - في مَنصّاتِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي المعروفةِ، بمَا يَلهجُون به تَأسّيًا؛ ويَمتدِحونَه كَثيرًا، ببَساطةٍ وحَلاوةٍ، وتَشذّي طَلاوةِ أيامِ ”الزّمَنِ الجَمِيلِ“ المِعطاء… ولعلّ جَوى وهَوى لِفافةِ بساطِ ذلك العِشق الثنائي ”المُندثرِ“ يَحظى بوميضٍ باهتٍ؛ ويَندى بهطلٍ مُباغتٍ، يَستحِثّ مَباعِثَ ومَبارِقّ شتّى، مِن أَلقِ وحَنينِ أجوَدِ أطياف الذكرياتِ الشائقةِ، المُتفرّدةِ بكلّ مَا هُو ”جَميلٌ وصَقيلٌ“ في خِضمّ مُعتركِ آفاقِ ذلك الزمن المُعاش؛ وفي صَميمِ أينعِ خِيار، وسَنا أوثق أواصرِ العلاقات الاجتماعيةِ اليوميةِ المَتينةِ، بين الناسِ مِن: حَميم أَلقِ السماحةِ، وأصالةِ نُعومةِ بِساطِ المُروءةِ الوِجدانيتَين، وخاصةً بين أفئدةِ وتضامُن الجيران والمعارِف؛ وكذا تداوُل مَنظومةِ سَائرِ المُعاملاتِ الوديّةِ بينهم، وتجاذُبِ أطرافِ الحديثِ الرحيمةِ، وربطِ أسمَى شؤون التواصُلِ الاجتماعي المُتفاني المُخلص، في أفراحِهم وأتراحِهم؛ وفي سَعة سَلاسةِ ودَماثةِ ”مُنتعشاتِ“ تلك الحِقبةِ المُعاشةِ، برَائقِ قضّها وسَائغِ قضِيضِها؛ وقد شاعَت في ربيعِ أوسَاطِهم المُتوحّدةِ المُتآلفةِ: أرقى وشائجَ التراحُم؛ واستطارت أندى رَوابطَ التوَاد؛ وتألّقت أعطر مَشاعرَ الاحترام؛ وتَنامت هَباتِ نزعةِ قضاءِ الحوائجِ المُتبادلةِ بينهم؛ وسَمت مُقتضيات مَراحِمِ انتهاجِ هَبّة ”الفزعة“ ومُساعدةِ المُحتاجِ، برغبةٍ ذاتيّةٍ مِن مَخزونِ رصيدِ دَماثةِ الأخلاقِ؛ بُغيةً شَخصيّةً، وأريحيةًِ امتثاليةً ببسطِ أردِيةِ مُدّخراتِ البذلِ السخِي؛ واقتسامِ بُرَدِ مَندوحةِ أصالةِ الكَرمِ العَريقِ… ولعلّ قَوامَ تلكِ المزايا الحَميمةِ، وتمامَ لُحمةِ الخِصالِ المُترابطةِ، بدأ ينحلّا مِن عُقدةِ وَثيقِ رِبقتهِما، شَيئًا فشَيئًا، في مُعتركِ عَصرِ نَفرةِ العَولمةِ الحديثةِ السائدةِ الكاسحةِ؛ ويتفسّخا لِزامًا، بصرعةِ وذُبولِ وتفكّكّ أَوْكِيةِ تلك الروابط، عن لُحمةِ جَسدِ طُوفان تدفّق العَلائقِ الاجتماعيةِ المُتفرّدةِ، في أواسطَ المُجتمعِ الواحدِ، وكأنّ مَحاسِنَها الضّافيةِ الفُضلَى ”سادَت ثمّ بادَت“ بطَرفَةِ عَينٍ …!

ولعلّي لا أبالغ البتّةَ، إذا أدليتُ بدَلوي مُتواضِعًا مَرّةً، في وَسطٍ مُتّسعٍ مُنتدى حِوارٍ ودَي واعٍ، بفساحةِ دِيوانيةِ جَمعٍ مِن الأصدقاءِ الأكارِم، مِن حَولي، وقد تخطّينا أنا، ولفيفُ أندادِي مِن ثُلّةِ الأمَاجِدِ المُعاصِرين - حَفظهُم الله تعالى - العَقد السادس مِن أعمارِنا المَديدةِ، بإذنِ اللهِ تعالى؛ وقد أفَضتُ سَماحةً وَقتها؛ وتحدّثت أريحيةً، بما شهِدتُه بَيانًا عَيانًا، منذ نُعومةِ أظفاري، في خِضمّ أرقَى وأسمَى انسيابيةٍ الحديث، ومُرونةِ دَماثةِ الأخلاقِ الحميدةِ السائدةِ آنذاك؛ ونميرِ يَنابيعِ حُسن الشمائلِ المُؤنسةِ، ومثلهما قائمة مُثلى طويلة مِن ”شرفِ وترفِ“ ورفاهةِ الخِصالِ، ونُبل السّجايا، وكَريم الفِعال؛ وقد تأمّلت رَدَحًا، في باقةِ أشذى مَحاسِنها المُثلى؛ ومحلِّلًا أبجديةَ أندى مَباهِجها الحُسنى طَويلْا؛ وقلّبت صَقيل مُنتهى مَرامِيها، وناعِم رائق مَغازي مَقاصِدها المُتأصّلة مَعرفةً مُوثّقةً، في ثنايا مَنابتَ عِزّةِ النفسِ، وفي شمائلَ طِيبِ الأردانِ، ومِثلهما، في سَماحةِ بُحبُوحَةِ مَندُوحَةِ التعايش الوِدّي المُشترك، وجِهادِ شهامةِ النفس الأبيةِ، ووَسامةِ شّرفِ الأرُومةِ الطيّبةِ، ومَنبِتِ رزانةِ كَرامةِ المَحْتِد…!

هذا، وعلى وَجهي الإدناءِ والتقريب الظاهرين، أنّ مَا يُردّدِه المُغرّدون والمُسنّون في توقيتِ حِقبة الزمنِ الجميلِ، ولعلّه استهلّ بذرةَ ربيعِ إشراقتِهِ الشاملةِ - في رُبوع رُقعة بلادِنا الحبيبةِ - في بدايةِ الستينيّاتِ مِن عُقود القرنِ المِيلادي المُنصرمِ، حيث تحسّنت الأحوال المَعاشيّةِ، وانتعشت الظروفُ الحيويةُ، بشكلٍ عَامٍ، بتَطورٍ مَلحوظٍ؛ يتبعُها تَحسنّ مُماثلٌ مَلمُوسٌ، في أمزجةِ ومُعاملاتِ الناسِ...! هذا، ويَذكر المُنظّرون الاجتماعيون، في مُدوناتِهم، حولَ أصعَدةِ التغيراتِ الاجتماعيةِ، بأنّ بارقةَ مُصطلحِ ”العَولَمَةِ“ الحديثةِ، قد ظهرت مَلامِحهُا، بشكلٍ بارزٍ مُتداولٍ، منذ بدايةِ العَقدين الماضِيين، مِن حقبة القرن الميلادِي المُنصرِم... ومِن نافلةِ الحديثِ الجاذبِ ذِكرًا، فقد ابتُعِثت للدّراسةِ الجامعيةِ في أواخِر السبعينيّات، وبدايةِ الثمانينيّات، مِن القرنِ الفائتِ، ومَايزال مُصطلحُ العَولمةِ قابعًا مُتخّفّيًا في عُقر قوقعةِ ”بياتِهِ الشّتوي“ وقد طابَ لي أنْ أحظَى وأظفرَ ببعضٍ مٍن أسمى المُمارساتِ الاجتماعيةِ المُثلى الشائعةِ، في صُعُدِ مَرافئ ”الزمن الجميل“ في زِحام الشارع الأمريكي، في عُنفوان وقتها المُشار إليه آنفًا…!

ولَا يَتسنّى لي ذِكر مَسرَدِ نماذج وأنماط تلك الممارسات العُرفيّةِ الاجتماعيةِ السائدةِ في أوساط زِحام الشارع الأمريكي آنذاك برمّتها… وأرى أن أعرّج على بعضها باقتِضابٍ؛ لتكتَمِل حَبكةُ الخاطرةِ؛ وتنال امدادَ زادِ نَميرِها بكفاءةٍ مَعهودةٍ…! وقد شَهِدت بأمّ عيني الالتزام الواعي بأمور فنَ قيادةِ المَركباتِ بأنواعِها، في مُختلفِ الطّرقات والمَنافذ… ولَا أُبالغ، إنْ قلت بأنّي - في أيام الدراسة هُناك - كنت أستمتع بعطلةِ نهايةِ الأسبوعِ، عِندما أقود مَركبتي الخاصّة في شوراع المدينةِ القريبةِ؛ لأتسوّق وأتنزّه في أنحائها المُتّسعةِ، حيث أرى الالتزامَ الصارمَ بأنظمةِ المُرورِ، مِن قِبل مُستخدمِي الطرقِ الداخليّةِ والمنافذِ السريعةِ… وفي فَساحةِ مكتبةِ الجامعةِ المُتعدّدةِ الأدوار، قِصةٌ ورِوايةٌ، حيث تِشاهد ”أمينة المكتبة“ المُسِنّةِ ”النِّحريرةِ“ وقد تربّعت حولَ مَكتبِها الأنيقِ؛ ورُبمّا يتردّد الطالبُ الباحِث، مُشفقًا عليها، في طلبَ المُساعدةِ الفنيّةِ مٍنها؛ وقد تجرّأت ذاتَ مرّةٍ بطلبِ مُساعدةٍ أكاديميةٍ بَحثيةٍ، وإذا بها تتلقّف بُغيتي؛ بعين الاهتمام؛ لتشير إليّ أنْ أتبعها إلى الدور الثالث، حيت هُناك تتكدّس مُتون المَراجِع والمَصادِر، وقد أوْمأت لي بالجلوس، برقيقِ هّمسةٍ مُتأدّبةٍ، لتتحِفني ”بحُزمةٍ“ مٍن الكتبَ القيّمةِ، بعد أنْ ألقت نظرةً سَريعةً، على مُحتوى فَهارسِها… ثمّ غادرت بعد أن أكّدت لي برفقٍ، بعدم التردّدِ في طلبِ أدنى مُساعدةٍ مُماثلةٍ لَاحِقًا…!

هذا، وعلى صعيدَ الخَدماتِ البلديةِ الحُكوميةِ، فقد تلقيتُ رسالةً برسُومٍ بلديةٍ مُستحقّةٍ على استخدامِ الطريقِ السريعِ، بمَا يّربُو على العشرين دولارٍ، وقد قُمتُ - على الفورِ - بتسديدِ مبلغِ الرسومِ بشيكٍ أقحمته داخلَ ظرفٍ جَديدٍ مُرفقٍ داخل الظرف الأصلي، وعلى ظهرهِ عُنوان مكتب البلدية، ومُزوّد بطابعٍ بريدي

جديد؛ لأضعَ بداخلهِ الشيك، وأزجّه في صُندوق البريد الصادر… والمُلفتُ للانتباه - في حِينه - أنّه بعد قرابةِ أسبوعٍ، وَردتنِي رسالةٍ مِن مَكتبِ البلديةِ مُرفقٌ بداخلِها شيك مُحرّرٍ مُعادٍ بدولارٍ واحدٍ زائدٍ عن مبلغ الرسوم... وقد تردّدت وأحجَمت عن صَرفه؛ لأُبقيهِ ذِكرىً مُوثقةً، لأحكِيها لَاحقًا، بشَفافيّة أمَانتها القائمة، إلى أفرادِ أسرتِي، بعد أنْ أعودَ مُتخرّجًا إلى أرضِ الوطن!

ولعلّ دِيباجةَ حَديثِ ذلك السّردِ المُعاشِ، بسِلسلةِ أطيافِ أحداثِه الجميلةِ المُوثّقةِ، قد استقرّت مَحفوظةً في فراشِ تلافيفِ ثنايا ذاكرتي المُتواضعةِ؛ لِترى النور يومًا، بعد أنْ أظهرَها مِن مَخبئها مَدادُ القلمِ، بعد أنُ استمدّ سُيولةَ دوائهِ الفعّال، مِن مَخبأ خَلايا الذاكرةِ؛ ليُصاغَ ويُذاعَ، ريعُه في مَنثُورِ مُحتوَى سُطورِ حِكايةٍ مُثيرةٍ مُوثّقةٍ، ومَحكِيّةٍ، بكامَل جُزئياتها الفاخرةِ ”الزمانيةِ والمكانيّةِ“ وقد استُلّت أحداثُها الشائقةِ مِن شاطئ الزمن الجميل، الذي تزامَنت وتسابَقت أجواف زوارقهِ الجميلةِ التليدةِ، في الاصطِفافِ الظافرِ، بأناقةِ أسرارِ جَمالِها المُميّزةِ، في عَنانِ فضاءِ مِظلة سُدُمٍ عُلويةٍ؛ عَمّت، وشَملت، وطَافت جُلّ أقطارَ المَعمورةِ، بجميعِ سُكُونِ أصقاعِها العامِرةِ...!