آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 11:52 ص

اختفاء

عبد الباري الدخيل *

خرج مؤيد من حجرته متجهًا لغرفة الجلوس، أخبر أمه عن نيته السفر في إجازة منتصف العام مع رفاقه، لم تفتح الأم فمها بحرف، فقط أشارت بعينيها إلى غرفة أبيه، وكأنها تطلب منه الاستئذان.

- متى سيكون لي الحق أن أسافر وقت أشاء؟ كل زملائي يفعلون ذلك.

- سمع صوتًا من خلفه: زملاؤك من الصائعين الذين لم يربهم أب.

- لا إنهم من عوائل معروفة.

- إذًا هم من الملتزمين أخلاقيًا، والمثابرين في طلب العلم، فيكافأهم أهاليهم بذلك.

- وأنا؟

- أنت سيئ في كل زوايا حياتك، كالحمار يحمل أسفارا.

- عدنا - يا أبي - إلى لغة التهكم «يجذب نفسًا ويكمل» لقد كبرت ويجب أن تحترمني.

- إذا احترمت أباك ستكون كبرت وستُحترم.

- الحديث معكم ضائع

- بل أنت الضائع.

وترك المكان وغادر دون أن يلتفت للخلف، فدموع أمه تملأ وجهها، وخوف والده عليه جعله يرجف كالسعفة في مهب الريح.

كان الأب ينظر للأم بعينين جاحظتين، وكأنه يعتذر منها، ويبرر قسوته:

- إنني أحبه، وأخاف عليه من تيارات بحر الحياة أن تأخذه بعيدًا، متى سيفهم أنني أحبه؟

- كلنا يعلم أنك تخاف عليه وتحبه، لكنّ القسوة كانت الصفة البارزة في تعاملك معه.

- لقد رأيت في أبناء الآخرين ما لا أريد رؤيته فيه.

- لو أظهرت له الحب، ولين التعامل، لاستجاب لك.

- الآن أصبحت أنا المخطئ؟

- لا يا عزيزي.. أنت أب حنون لكن الزمان تغير، وصار الأبناء يضيقون بأسئلة وتوجيهات الآباء.

- يجب أن يعلم أنني أحبه أكثر من نفسي.

- هو يعلم.. لكنه يحتاج إلى تطبيق.. عانقه.. شجعه.. اسمع له.

خرج مؤيد لا يدري إلى أين يذهب، فجيبه خالي من النقود، ورأسه فارغ من الأفكار.

قال: ”يحتاج الحديث مع أبي إلى طاقة كبيرة، كيف أُفهمه أننا جيلان مختلفان؟ وأنني لست كأخي عباس، ولا كابن أخيه موسى، لقد أصبحت مشاعري تجاه البيت ومن يسكنه كالإسمنت، أنا الآن شخص آخر“.

فجأة قرر أن يذهب إلى مزرعة والد زميله خالد، ويختفي هناك عن الجميع، ثم يدعي عند زملائه أنه سافر إلى مصر، وهكذا يجبر والديه على قبول فكرة غيابه.

لم يستطع الأب الانتظار، فخرج بعد ساعة يبحث عنه، وأخذ أخاه عباس يتصل بأصدقائه يسأل عنه، كلّ الأفواه والأماكن تحدثت بجملة واحدة «لم نره».

كان والده يردد مع نفسه: ”ارجع يا مؤيد وسنكون أصدقاء.. إنني بانتظارك.. لا تتأخر فقلبي لا يتحمل“.

كانت المزرعة في طرف المدينة الغربي، تبعد عن منزلهم قرابة 35 كيلومتراً، بقي فيها أيام لا يغادرها، وكان إذا خرج لشراء حاجاته يذهب للبقالة البعيدة حذر أن يره من يعرفه.

استمر غيابه أكثر من 10 أيام، وجميع من حوله قلقون عليه، ما عدا خالد الذي وعده ألا يتحدث لأحد بأمره.

كان يقول لنفسه: ”كلهم غارقون في دوامة التزاماتهم، لم يلحظ أحد منهم غيابي، لا عائلتي، ولا زملائي في المدرسة، ولا حتى أصحابي، الأيام تسير وغيابي كحضوري ليس مهمًا لأحد، أنا غائب، نعم أدبّر حياتي وأنا غائب، لا أحمل أي مشاعر مضادة للغياب، العالم الخارجي يشبه الغابة، ووجودي بينهم كاختفاء نملة بين أوراق الخريف المتناثرة، الشعور بالوحدة شعور سيئ، لكنني سعيد أنني أعيش وحدي هنا“.

بعد أسبوعين من غيابه، خرج مع المزارع بسيارة المزرعة للسوق ليبيعا نتاجها، لكنّ عطلًا أصاب محركها فتوقفت في وسط الشارع، وتفاجأ بوقوفها سائق شاحنة فدهسها ومات مؤيد متأثرًا بجراحه، وبقي العامل في المستشفى يعاني من كسور مختلفة.

يرن جرس الهاتف في المنزل، فيجبب عباس، ووالداه يقفان بقربه ينتظرون خبرًا عن ابنهم.

- نعم هذا منزله «يصمت» نعم أنا أخوه «صمت» ماذا؟ أي مستشفى؟

- تسقط سماعة الهاتف من يده ويخرج صوت مخنوق من وسط الدموع: لقد مات مؤيد في حادث سير.

سقط والده على الأرض، وأجهش بالبكاء، وهو يصيح: ”ارجع يا مؤيد.. لا ترحل.. حبيبي مؤيد.. ليش تموت قبل ما تسمعها مني؟“ وأمه من هول الصدمة لم تتكلم، وذهبت لغرفته تحتضن ثيابه وتبكي.