آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

مسلسل خيوط المعازيب

علي عيسى الوباري *

في زمن الأجهزة الذكية والذكاء الاصطناعي والحوارات الكتابية والمرئية بأدوات التواصل الاجتماعي والمقاطع التمثيلية المتنوعة القصيرة المتضمنة صورا وعبارات مختصرة تتناسب مع إيقاع الحياة الرقمي السريع، بعهد ثقافة المحاكاة الإلكترونية المباشرة التي يتفاعل معها المرسل والمتلق، يحصل على تغذية مرتدة لحظية، في زمن سلطة الوسائط الرقمية اعتقد الكثير أن الدراما والمسلسلات التلفزيونية، وإن كانت تنقل وتشاهد بواسطة تطبيقات الإنترنت انتهى دورها، وأصبحت التطبيقات الرقمية الذكية تلاحق حامل الجهاز الرقمي بمقاطع تحاكي رغباته، وتلبي طلباته وتنجز له ما يريد وتتوافق مع ما يهواه ويرغبه، لكن أثبتت النصوص الدرامية الجادة المصورة لواقع المجتمعات، حتى لو كانت في زمن الماضي تجذب المشاهد وإن لم يعش المتابع طبيعة تلك الحقبة بقيمها ومفاهيمها الاجتماعية التي تعتبر عند جيل الألفية الثالثة من الموروثات الغير فاعلة، ولا تعنيهم بحياتهم، بل منفصلة عن واقع تتحكم فيه إفرازات الشبكة العنكبوتية.

لكن مسلسل خيوط المعازيب أثبت ومن خلال نجوم بعضهم لحق على الثقافة الاجتماعية المنتهية جل مظاهرها وعلاماتها وآثارها، وشارك معهم بالتمثيل أغلبية من وجوه شابة سمعوا عن أجواء وظروف الواقع الذي يمثلونه وأدوا أدوارا بتعليمات المؤلف والمخرج وكاتب السيناريو ابتداء من اللهجة، ومع هذا أجادوا في الأداء، وانسجموا مع أدوار في زمن منفصل بملامحه عن واقعهم، بل في مضمونه مختلف كليا عن حياتهم الحالية، حتى عنوان المسلسل «خيوط المعازيب» يعني شيء لشريحة اجتماعية تجاوزت الستين أو مجموعة مهتمة بقراءة التراث الأحسائي وتسمع في الأحاديث والحوارات عن بعض عادات وتقاليد شبه غابت، لكن الأكثر من الشباب تساءل ماذا تعني معزب وما علاقة الخيوط بالمعازيب، مسلسل خيوط المعازيب أثار في شخصية المتلقي بالأحساء ودول الخليج ذاكرة اجتماعية بشخصيات لهم قيمهم ومفاهيمهم في الحياة حسب ما فرضه واقع ذلك الزمن، المتابع وجد في المسلسل ما يكشف عن تاريخه الاجتماعي والاقتصادي الماضي المختلف عن ما يعيشه الآن، فاكتشف التضاد بين ماضوية وحالية جذبته بعض العادات والتقاليد المفقودة، المشاهد والحوارات في المسلسل جسدت مناظر منازل وأزقة لها تصاميم لظروف معيشية مختلفة وأساليب حياة قوامها العلاقات الاجتماعية البسيطة والغير معقدة، وأبرزت إحدى أدوات الاقتصاد وأساليب كسب الرزق والعلاقات العائلية التي تعيشها الأسرة الممتدة، أظهر المسلسل مواقف اجتماعية يعيش فيها المجتمع كعائلة واحدة يتخللها بعض السلبيات وضريبة هذا النمط من ثقافة الحياة الاجتماعية المتضامنة، المشاهد وجدها فرصة لاستدعاء ماض انتهى واستحضار ما يسمعه ويقرأ عنه لترميم الذاكرة الاجتماعية الحالية المنفصلة عن أجيال الآباء والأجداد واستدعاء قيم محبوبة تعيد الاتصال الحاضر بالماضي، وتعزز روابط الأصالة بالحداثة وتجدد روح التكافل والتعاون بين العوائل والجيران ودور المالك والتاجر وعلاقته مع من يعمل معه، فهو عمل درامي راق تعددت فيه مشاهد اجتماعية يصعب التوفيق بينها إلا إذا كتبها مؤلف عاش تلك الحقبة، وتفاعل مع أحداثها، وانسجم مع مواقفها، وكانت له رؤية أدبية توثيقية مثل الأستاذ حسن العبدي وهو أحد أبطال ونجوم مسلسل مميز في زمن ندرة النصوص والكتابة الدرامية التلفزيونية على مستوى الوطن العربي.

بالرغم أن الدراما التلفزيونية عادة تتضمن عناصر إثارة وتشويق وفانتازيا، لكن هناك ملاحظة في نهاية المسلسل التي صور فيها قتل أبو عيسى بمنظر منفر في موقع اعتبر «عين المياه الجارية» التي تظهر فيه جمالية الماء وخلفية النخيل وهما مصدر خير ورزق للناس ومورد طبيعي للفلاحين والمزارعين وأحد معالم الأحساء التي كان أهل الأحساء يستمتعون بالسباحة والسقاية فيها.

القتل بهذا الشكل سيترك أثرا سلبيًا لدى المشاهد المعجب بأحداث وذكريات استدعتها الذاكرة الاجتماعية عاشوها الآباء والأجداد، وتحدثوا مع أبنائهم عن زمن الطيبين «الماضي الذي لن يعود»، ذاكرة اجتماعية تاريخية تجلت فيها أسمى معاني القيم بين أفراد المجتمع مقارنة بعصر حالي طغت فيه مفاهيم المادة والفردانية، تفاعل البعض مع ما يسمى النوستولجيا «الحنين للماضي» في مجتمع قفز بطفرة اقتصادية تجاوزت البيئات العربية المجاورة لاكتشاف النفط وانعكاس آثاره التنموية على المجتمع، يعتقد من يعيشه الآن أفضل بسبب الآثار التنموية الإيجابية مثل التطور التعليمي والاقتصادي والاجتماعي حتى أن الكثير درس خارج الوطن، واشتغل في بيئات عمل وطنية وبشركات متعددة الجنسيات بأحدث النظم الإدارية المؤسساتية، وفتحت عيونهم في منازلهم على أحدث الديكورات والتصاميم المعمارية المزودة بأحدث التقنيات والأجهزة الذكية التي تحركها شبكة الإنترنت، جيل المشاهدين وهم يشكلون أكثر من 80% من المجتمع لم يعرفوا تلك الحقبة؛ لأنهم يعيشون الآن الرفاهية والتنمية الاقتصادية المتطورة، أصبحت بعض أقسام التعليم والعمل عن بعد، وليس في بيئة جماعية محدودة وضيقة بجدران وبأحاديث مكررة ومملة كما شاهدوه بمسلسل خيوط المعازيب في نظرهم، لكن ذاكرة من عاشها يشتاق لبعض العادات والأعراف المفقودة.

نهاية أبو عيسى وهو سبب لمصدر رزق الكثيرين ربما تبعث على انطباع سلبي فيه الانتقام والخلاص من شخص يحمل ثقافة التاجر أفاد من حوله، وإن كان يحمل صفات التاجر الخائف على تجارته بزمن ندرة التجار، يريد أن يحافظ على موقعه الاجتماعي من خلال قوته المالية، أدار تجارته بحزم في زمن محدودية مصدر المال والثراء، واقع مألوف بتلك الحقبة من يمتلك المال يكون لديه سطوة في بيته وله صوته القوي المرتفع في مجتمعه نظير ما يقدمه، وإن كان المجتمع مجتمعًا زراعيًا ومهنيًا يغلب عليه الطيبة ومعروف بالمحافظة والتعاون والتكافل، لكن السلطة المالية تبرز القوة الاجتماعية حتى لو كانت قل، ربما لو أنهى المخرج المسلسل بنهاية مفتوحة أو غامضة لزيادة عنصر التشويق، خصوصا إذا كان فيه أجزاء مكملة وهي ما اعتاد عليه مؤلفي النصوص، وعمل عليه أغلب المخرجين في الأعمال الدرامية التلفزيونية التراثية.

 بدون شك المسلسل لاقى نجاحًا كبيرًا وتفاعلا ومشاهدة واسعة؛ بسبب موضوع القصة التراثية وأيضا أداء الممثلين والإخراج وما يتبعها من تصوير وإضاءة ومناظر طبيعية جميلة وأيضا ساعد على الانتشار والمتابعة الأجهزة الذكية المحمولة وأدوات التواصل الاجتماعي.

 لكن هناك عاملًا مهمًا في انتشار المسلسل خصوصا في البيئة الاجتماعية الأحسائية وهو إبراز حالة «الاحتفائية» التي امتاز بها الأحسائي، أهل الأحساء سمتهم الطيبة والود، ويمتازوا بإظهار الفرح ويبرزوا معالم الاحتفال في حياتهم سواء بين بعضهم البعض أو مع يزورهم، بالرغم أنها خاصية وطنية وخليجية، لكن في الأحساء تسمو قيمة الفرح بشكل عفوي، وتنطبع فيها صدق المشاعر حين الاستقبال وإقامة المناسبات والاحتفالات، خصوصا إذا كانت المناسبة فيها نجاح وإنجاز.

العلاقات الودية والانسجام الاجتماعي والتلقائية في تأسيس العلاقات ساعدت في إبراز الفرح والاحتفاء بالمنجز ويرمز المحتفى به، وهذا ما يحدث مع عمل درامي ناجح مثل مسلسل خيوط المعازيب الذي أبرز ثقافة اجتماعية أحسائية جميلة.

‏مدرب بالكلية التقنية بالأحساء،
رئيس جمعية المنصورة للخدمات الاجتماعية والتنموية سابقا.