مذكرات أمل «14»
يا لسرعة مرور الوقت، مضت أيام الجامعة وكأنها لحظة..
هكذا بدأنا حديثنا بعد الانتهاء من آخر اختبار لنا في الكلية، جلسنا في الكافتيريا، هذا المكان الذي طالما احتضننا وتناقشنا وضحكنا وفكرنا في المستقبل..
سألت رقية ما هو شعورك في هذه اللحظة ونحن على اعتبار مغادرة هذا المكان؟
قالت رقية: في القلب فرحة وبالعين دمعة..
صمت ولمحت دمعة في عينها...
توجهت لزينب وسألتها وأنت يا زينب ماذا تقولين؟
رغم الفرحة هنالك غصّة بانتهاء أجمل الأيام والأوقات..
قلت لهما: أنتما أعز صديقتين.. رافقتماني في مشوار الجامعة ولا أعرف كيف سيكون مشواري بدونكما، شكراً جزيلا لكما...
اختنقت بعبرتي...
قالت رقية: يكفي دموع يا أمل... الأهم أن لا تنقطع علاقتنا... تواصلي معنا ولا تنسي أن تكرري زيارتك للقطيف... في المرة القادمة سنتجول معك في باقي مناطق القطيف: سيهات، تاروت، العوامية، القديح، صفوى، وباقي المناطق... سنذهب معك لنخيل القطيف،...
قلت لها: يا سلام.. نخيل القطيف... أنا أحب الكنار... سأزوركم لأكل معكم الكنار....
ضحكنا وقلنا اتفقنا...
وجاء يوم التخرج... اتصلت بي رقية وقالت: هل أنت مستعدة للحفل؟!
أجبتها: للأسف أنا متعبة... إنفلونزا وزكام... لا يمكنني أن أحضر...
قالت رقية: يا لها من خسارة.... هذا اليوم كنا ننتظره...
أجبتها: ليس لي نصيب...
عندما استلمت وثيقة التخرج... كان معها روب التخرج...
قالت الموظفة: هذا من العميدة... لأنك كنت طالبة مميزة وتستحقين هذا الروب... ألف مبروك...
..................................
بعد 3 شهور من التخرج قمت بزيارة مركز تأهيل ذوي الهمم وهو جميعة خيرية... كانت زيارة عابرة لأني عرفت أن لديهم مهرجان «بازار» بيع بعض المشغولات اليدوية... تجولت في البازار حتى التقيت بالمديرة وتحدثت معها عن وضعي الصحي ومؤهلي... ثم سألتها إن كان بالإمكان التطوع معهم في المركز...
أجابتني المديرة: نحن بحاجة إلى تخصصك «إنجليزي» خصوصاً أننا نتعامل مع ممرضات وأغلب الموظفات لا يتقن اللغة الإنجليزية...
قلت لها: سأعمل متطوعة وبعدها أقرر الاستمرار أم لا...
بدأت العمل التطوعي في المركز لمدة 3 شهور ثم أكملت 3 شهور تدريب خلال هذه الفترة عملت في عدة وظائف تدريس الطالبات، وأتعامل مع الممرضات في ترجمة التعليمات للطالبات، كانت تجربة رائعة... في نهاية فترة التدريب والتطوع «6 شهور» تم منحي شهادة متطوعة مع مكافأة... شعرت بالحزن لأني سأترك هذا المكان الذي أحببته...
في اليوم الثاني اتصلت بي مديرة المركز لتخبرني برغبتها في توظيفي معهم في المركز بشكل رسمي... كنت سعيدة جداً بهذا الاتصال وبهذه الثقة...
أخبرت أمي بذلك فقالت: ”وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ“ الذاريات /22
وبدأت مشوار العمل في هذا المركز منذ عام 2011 م
نسيت أن أخبركم أن صديقتاي رقية وزينب حصلتا على وظيفة معلمات لغة إنجليزية ولكن في مناطق خارج القطيف، رقية في حفر الباطن، وزينب في الخفجي... كان بيننا تواصل بشكل جيد حتى بدأت زحمة الحياة ومسؤولياتها تأخذ من وقتنا، فأصبح التواصل في المناسبات الاجتماعية كشهر رمضان والأعياد...
...........................
بدأ العمل يشغلني، في كل يوم أتعرف على قصة جديدة، وعن شخصية جديدة... قصص الأطفال أصحاب الهمم كثيرة منها المضحك ومنها المبكي...
ذات يوم كان البرد قارساً رأيت إحدى الطالبات ترتجف من البرد، تقدمت نحوها سألتها ما بك؟! لماذا لم تلبسي معطفاً مناسباً، هذه الملابس لا تقيك من البرد... أين حذائك؟!
لم تتكلم الطالبة بأي كلمة...
قلت لها: هيا تعالي معي.. لنذهب للاختصاصية الاجتماعية... لعلها تجد لك حلا...
رفضت الطالبة أن تذهب معي... ولكني قلت لها: لا تخافي سنساعدك... هيا تعالي معي...
وصلنا لمكتب الاختصاصية الاجتماعية، سلمت عليها ثم قلت: لقد رأيت هذه الطالبة ترتجف من البرد هل ممكن مساعدتها... هل لديكم معطف يقيها البرد...
تقدمت الاختصاصية وخاطبت الطالبة قائلة: أين معطفك يا سارة... لقد أعطيتك معطفاً يوم أمس... أين هو؟!
نظرت الطالبة للاختصاصية ثم قالت: لقد أخذه أخي... هو أيضاً يشعر بالبرد...
سقطت دموعي على خدي...
نزعت شالي وأعطيته للطالبة...
بعد خروج الطالبة قالت لي الاختصاصية هل أنت موظفة جديدة؟!
أجبتها نعم...
قالت الاختصاصية: ما اسمك...
ابتسمت وقلت اسمي أمل...
وقفت الاختصاصية وقالت: أمل... أمل... أيعقل أن تكوني...
قلت لها: ما بك أخفتني... نعم أنا أمل...
قالت: هل درست في الابتدائية السادسة...
أجبتها: نعم...
قالت: إذا أنت هي... كما وصفتك أمي...
سألتها ومن هي أمك.. هل معلمة اللغة العربية أم الرياضيات؟!
ضحكت ثم قالت: لا هذه ولا تلك أمي هي الخالة أم عبدالله...
ما أن سمعت أم عبدالله حتى تهلل وجهي فرحاً... وقلت أين هي... لا تقولي أنها.... أرجوك...
قالت: لا تقلقي أمي تنتظرنا في البيت وهي بصحة جيدة...
قلت لها: وما اسمك...
ضحكت وقالت: المفاجأة أنستني أن أعرفك بأسمي... وفاء هذا هو اسمي... كنت معكم في المدرسة ولكني كنت في الصف السادس أي سبقتك بسنتين... ولذلك لم ألتق بك...
قلت لها: المهم أن الخالة أم عبدالله بخير... الحمد لله
قالت وفاء: نعم كما أخبرتك، اليوم غذاءك سيكون معنا، أرجو أن توافقي...
قلت: نعم موافقة بالتأكيد
جلسنا نتحدث عن تلك السنوات الماضية، وما عانيته من ألم بعد وفاة أخي، وذكرت لها زيارة والدتها لنا أيام العزاء وكانت كالبلسم الشافي...
تحدثنا عن العمل في المركز ومشاكل الطالبات...
فقالت وفاء نعم هناك طالبات بحاجة لمساعدات طبية واجتماعية ونفسية، ونحن نبذل كل ما بوسعنا...
انتظرت ساعة انتهاء الدوام وكنت أتجول بالكرسي، وفي مخيلتي كيف سيكون لقائي بالخالة أم عبدالله بعد هذه السنوات...
انتهى الدوام وقلت لوفاء كيف تذهبين لبيتكم؟!
أجابتني: مع سائق خاص...
قلت لها هيا تعالي معي، من اليوم أنت رفيقتي، اتصلي بالسائق وقولي له أنك ستذهبين مع زميلتك...
ذهبنا لبيت وفاء وما أن فتحت وفاء الباب حتى شعرت بقشعريرة...
نادت وفاء: أمي.. أين أنت... تعالي.. لقد حضرت معي ضيفة عزيزة عليك...
سمعت صوتها...
”أنا قادمة“
سمعت خطواتها تقترب.
كيف سيكون شكلها بعد هذه السنوات..
قالت أم عبدالله: أين هي ضيفتك يا ابنتي..
أجابتها وفاء نحن هنا في الصالة..
وقفت عند مدخل الصالة.. لم تستطع الكلام للحظات.
تحدثت عيوننا بدموع الفرح..
اقتربت منها خطوة واقتربت مني خطوة دون أم نتفوه بكلمة واحدة.
مددت ذراعي وبصعوبة بالغة قلت.. خالتي أم عبدالله لقد اشتقت إليك..
انكبت علي تقبلني ودموعها على خديها وهي تقول أهلا بالأمل العزيزة.
منذ سنوات لم أرك فيها، لكنك لم تتغيري، لا تزالي أنيقة..
ابتسمت لها وقلت لا يا خالتي لقد زاد وزني بعض الكيلوات...
ضحكت وقالت لكنك أصبحت أجمل...
قالت وفاء: دعونا من الكلام... نحن جائعون. أين الغذاء يا أمي؟
قلت: وأنا كذلك جائعة.
ضحكت أم عبدالله، ثم قالت لحظات وسيكون الغذاء جاهزاً.. هيا اغسلوا أيديكما..
جلسنا على مائدة الغذاء..
قلت الغذاء لذيذ تسلم يداك يا خالتي..
قالت أم عبدالله صحة وعافية يا ابنتي.
قالت وفاء: أمي.. أنت لم تسألي كيف تعرفت على أمل..
قالت أم عبدالله: حرارة اللقاء أنستني ذلك...
قالت وفاء: أمل هي زميلتي في العمل...
قالت أم عبدالله الحمد لله الذي بعثها لك لتكون أختك وسندك..
قلت نعم كم أنا سعيدة بوجودي معكم...
استمر الحال مستقرا في مركز التأهيل، حتى ذهبت ذات يوم لمسؤولة الحضور والانصراف وطلبت منها استئذاناً لكي أذهب لموعد المستشفى..
قلت أستاذة نورة لدي موعد بالمستشفى وأرجو أن تسمحي لي بالخروج مبكرا.
ما إن سمعت خروج مبكراً حتى انتفضت من مكانها وصارت تصرخ في وجهي: موعد بالمستشفى، ما أكثر مواعيدك، منذ أسبوعين كان عندك موعد، اليوم عندك موعد، ما هذه المواعيد.. أرجو أن تنتبهي لعملك...
خرجت من مكتبها ودموعي على خدي...
قابلتني وفاء ورأت وجهي ودموعي.. سألتني ما بك لماذا تبكين.
قلت لها الأستاذة نورة.. كم هي قاسية...
قالت وفاء: عرفت السبب.. لم تسمح لك بالخروج.. هكذا هي متسلطة.. عنيفة في تعاملها.. لا عليك يا أمل شدة وتزول إن شاء الله..
مضت ستة أشهر وفي كل مرة كنت أرغب بالذهاب لموعد تغيير القسطرة كانت الأستاذة نورة ترشقني بسيل من الكلمات القاسية...
بعد هذه الحادثة تحدثت مع المديرة عن مواعيدي المتكررة في المستشفى...
تفهمت المديرة وضعي وقالت لا تقلقي سأتحدث مع نورة.. ستكون أمورك ميسرة.. لا تقلقي...
فرحت كثيرا بتفهم المديرة...
بعد هذا اللقاء مع المديرة توقعت أن يتغير أسلوب الأستاذة نورة. ولكن للأسف لم يتغير أسلوبها..
كنت أذهب لمواعيد تغيير القسطرة وأنا أعاني مرارة الألم ومرارة كلمات نورة...
.................................................
في صباح أحد الأيام عندما وصلنا لمقر المركز لمحتُ إحدى الطالبات من ذوي الهمم قد حملها السائق من السيارة ووضعها على الكرسي المتحرك...
اقشعر بدني من هذا المنظر...
نظرت لوفاء وقلت: ما هذا؟
أجابتني هذه الطفلة «مها» كما ترين لا تستطيع المشي...
قلت: أعرف ذلك ولكن أقول ما هذا الوضع؟ هل هذا الرجل هو أبوها، أخوها، عمها...؟!
قالت وفاء: ما بك يا أمل هذا هو السائق...
قلت وهنا المصيبة، أيعقل هذا؟! كيف تسمحوا لسائق «هندي» يحمل بنت في عمر الثانية عشرة، إنها مكلفة... ألا تخافوا أن تحدث مصيبة في المستقبل؟!
نظرت إليّ وفاء وقالت: أعرف قصدك، ولكن والدا البنت منفصلين، الأب غادر إلى الرياض والأم تسكن مع أخوها ووضعهم الاقتصادي محدود جداً... لقد درست الحالة ولكن لم أجد حلا...
قلت سأذهب للمديرة وأخبرها بهذا الوضع...
تحدثت مع المديرة وشرحت لها هذه المشكلة والخوف من المستقبل...
قالت المديرة: أعرف اهتمامك وحرصك وهذا شعور ينم عن وعيك ومسئوليتك...
قلت: لماذا لا نكتب خطاباً لإحدى الجهات المختصة أن توفر كرسياً كهربائياً وسيارة بها مصعد كهربائي لمثل هذه الحالات...
نظرت إليّ المديرة وقالت: أراك متفاعلة مع الموضوع...
قلت هذه أمانة... سأكتب الخطاب وسأحضره لك للتوقيع ونرسله للجهة المختصة...
قالت: لك ما تريدين... أشكرك على حرصك...
اتفقت مع المديرة أن تتساعد العاملات لإنزال هذه الطالبة من السيارة ووضعها على الكرسي دون تدخل من السائق... حتى نرى نتيجة الخطاب...
قالت وفاء: كم أنت رائعة يا أمل...
قلت لها: الحياة علمتني أن أتحسس ألم الآخرين ربما أنت لا تشعرين بما تشعر به «مها» ولكني أشعر...
سقطت دموعي على خدي...
همسة أمل:
يجب أن يكون إحساسك إيجابيّاً مهما كانت الظروف، ومهما كانت التحديّات، ومهما كان المؤثّر الخارجيّ.
للقصة بقية