مذكرات أمل «13»
لا زلت أذكر كلمة الأستاذة منال عندما حدثتني عن الجامعة فقالت: ”الحياة الجامعية حياة من نوع آخر، فيها ستتعلمي أبجديات الاستقلالية وتحمل المسؤولية والكفاح والمثابرة..“.
في أول يوم في الجامعة كُنت مُتحمسةً جداً لحضور اليوم التعريفي لكلية الآداب!
دخلتُ متعجبةً من تجمعات الطالبات، نظرتُ ذات اليمين وذات الشِمال فوجدتُ مكاناً مُكتظاً بالطالبات خطر لي بأنه هو المسرح الذي سيُقام به البرنامج.. سألت إحدى الطالبات: هل هذا المسرح الذي سيقام فيه الحفل التعريفي؟!
أجابتني: أي كلية تريدين؟
أجبتها كلية الآداب...
ابتسمت وقالت: هكذا هن المستجدات... أنت في مبنى كلية التربية... المبنى المجاور هو كلية الآداب... هيا عليك أن تسرعي قبل أن ينتهي الحفل...
قلت في نفسي: كيف لم أقرأ لوحة الكلية؟!... إذا كانت هذه البداية فكيف ستكون النهاية...
الحمد لله أن الكرسي كهربائي وإلا فكنت سأبذل جهداً كبيراً للوصول للكلية.
وصلت كلية الآداب... قابلت إحدى الطالبات سألتها عن المسرح فقالت: إنه هناك في آخر الممر... هيا أسرعي قبل أن ينتهي الحفل التعريفي...
وصلت المسرح... لقد تأخرت... فلم أسمع سوى كلمات الترحيب... وبعدها قالت مقدمة الحفل والآن سنقسمكم إلى مجموعات لكي يسهل عليكم التعرف على الإجراءات الجامعية كاستخراج البطاقة الجامعية وكيفية اختيار المواد وغيرها...
بعد هذا الاجتماع... تجولت في أفنية الكلية، لا أعلم أكانت جولة أم تيه، في هذه اللحظة شعرتُ ببعضٍ من الحزن والوحدة القاتلة التي تخلو من الرفيق المُخلص والقريب العارف لطباعي وشخصيتي، قلت في نفسي أين صديقاتي في الثانوية.. كل طالبة توجهت لكلية وجامعة مختلفة... ولكن علي أن أبحث عن صديقات جدد...
بدأت الدراسة... كل شيء مختلف ابتداءً من ”الأبلة“ فقد تغيّر المسمى إلى ”دكتورة“ و”الحصة“ تبدلت إلى «محاضرة»... وليس لك مكان «طاولة» محددة... ولكن لأني من أصحاب الهمم كنت أجلس في الصف الأول من كل قاعة...
تأقلمت على أجواء الجامعة، وسارت الأمور على ما يرام...
لم يحدث أي جديد سوى مواعيد المستشفى لتغيير القسطرة كل أسبوعين... وكان هذا يزعجني...
...
في أحد الأيام كنت جالسة في الكافتيريا وبجانبي طالبتين يتحدثان عن المحاضرات والاختبارات.. كانت لهجتهم غريبة علي.. اقتربت منهما.. سلمت عليهما...
ردت إحداهن السلام وقالت أهلا بك تفضلي كيف نستطيع خدمتك؟!
قلت لهما أنتما معي في المحاضرة السابقة وعندي بعض الاستفسارات إذا ممكن تساعداني.
قالتا على الرحب والسعة.. وبدأنا نتناقش حول المحاضرة.. ثم قلت لهما.. هل أنتما من البحرين؟!
ضحكتا وقالتا نحن سعوديتان مثلك.. لكن لهجتنا قريبة من البحرين.. نحن من القطيف.
ما إن سمعت اسم القطيف حتى داخلني شعور بالسعادة.. تذكرت أصدقاء أبي وتذكرت تلك الزيارة التي أحضر فيها أبي عناوين المستشفيات الأجنبية..
قلت آه أنتما من القطيف الحبيبة المشهورة بالسمك..
قالتا نعم نحن من القطيف.. ويسعدنا التعرف عليك. من أين المناطق انت؟
أجبتهما من الدمام. بيتنا ليس بعيد عن الجامعة.
قالت إحداهما اسمي رقية وهذه زينب... ما اسمك؟
أجبتها: أمل...
قالت رقية: اسم يبعث على التفاؤل... أهلا بك
قال زينب: يسرنا أن نتعرف عليك أيتها الأمل...
منذ ذلك اللقاء ونحن نلتقي في الكافتيريا نتحدث عن الدراسة وبعض المواضيع الأخرى..
انقضى الفصل الدراسي الأول عفوا انتهى السمستر الأول هكذا كان اسم الفصل الدراسي في الجامعة والبعض يسميه الترم.. لا أعلم عن هذه المسميات، ولكنها مصطلحات الجامعة....
في بداية الفصل الدراسي الثاني جلست مع رقية وزينب، كان حديثهما عن رغبة زينب في تغيير التخصص، فهي لم تألف تخصص اللغة الإنجليزية...
«طبعاً» نحن الثلاث تخصصنا لغة إنجليزية...
تحدثت مع زينب بضرورة الاستمرار فهذا التخصص فله مستقبل وظيفي أفضل من بقية التخصصات ولكنها لم تقبل.
قالت رقية: لك الحرية في اختيار التخصص القادم ولكن أتمنى أن تختاري الأفضل وليس الأسهل...
بعد ثلاثة أيام التقيت بزينب وعلامات البهجة على ملامحها، ابتسمت وسألتها: أراك مبتهجة ماذا وراءك...
أجابتني: سأكمل المشوار معكما...
قالت رقية: «عفيه» عليش... بس مو كل يوم تغيري رايش
قلت: ماذا تقصدين بهاتين الكلمتين «عفيه» عليش
ضحكتا وقالت رقية: نسيت أن هذه المصطلحات غريبة عليك يا عزيزتي أمل أقصد: أحسنتِ صنعاً وهي كلمة تشجيعية نقولها لتحفيز الطرف الآخر للعمل والاستمرار بالعمل...
ضحكت وقلت وكلمة رايش تعني رأيك...
ضحكتا وقالتا نعم: لقد بدأتِ تفهمي لجهتنا الحبيبة...
استمرت زينب في تخصصها وبذلت مزيدا من الجهد وتحسن مستواه الدراسي، طبعاً كنا لها خير سند فقد كانت لنا جلسات مذاكرة... تتخللها جلسات ضحك و«سوالف» بنات...
مع نهاية السنة الدراسية قلت لزينب ورقية سأشتاق إليكما، أتمنى أن أزوركم في القطيف...
تهلل وجههما فرحاً وقالتا: وما المانع... أهلا بك في القطيف في أي وقت...
ثم قالت رقية: ما رأيك أن تزورينا في مناسبة القرقيعان في شهر رمضان... ستكوني سعيدة جداً...
قالت زينب: اقتراح رائع... سنتجول معك في «الديرة»...
ضحكت وقلت: الديرة يعني الحي أليس كذلك...
ضحكنا ثم قلت... سوف أرتب أموري وسأزوركم في القطيف ليلة القرقيعان...
...
تحدثت مع والداي وقلت لهما سأذهب للقطيف ليلة القرقيعان...
ضحك أبي وقال: القرقيعان في القطيف مختلف... لديهم مهرجانات وتجمعات واحتفالات.. في ليلة القرقيعان جميع شوارع القطيف تمتلأ بالناس... الحياة هناك مختلفة...
قلت شوقتني يا أبي للزيارة... هل توافق أن أذهب... سأذهب لزيارة زميلتي رقية وزينب...
قالت أمي: إذا كنت مشتاقة لهذا الزيارة وتتوقعي أنها ستسعدك فلا مانع...
قلت: أتوقع يا أمي أنها ستكون زيارة مميزة...
ابتسمت أمي وقالت: هل تسمحي لي وأختك زجل بمرافقتك...
تهلل وجهي فرحاً وقلت: بالطبع لا مانع... شكراً لكم
تواصلت مع رقية وزينب وأخبرتهما بقدومي مع والدتي وأختي للقطيف، ليلة القرقيعان...
رحبتا بالزيارة وقالت رقية: نحن ننتظركم على أحر من الجمر...
وفي ليلة الخامس عشر من شهر رمضان توجهت مع أمي وأختي زجل للقطيف...
ما أن وصلت لمدخل القطيف حتى رأيت خزان الماء الذي وصفته لي رقية...
اتصلت برقية وقلت: لقد وصلنا للخزان أين نتجه الآن؟!
أجابتني: أكملي طريقك حتى تصلي المركز الصحي بالشويكة سأنتظرك عند مدخل المركز...
دخلت القطيف حيث الوصف، كان الزحام شديد والأنوار تضيئ كل المنازل... الزينة في الشوارع... لوحات كبيرة كتب عليها كل عام وأنتم بخير...
صرت أنظر لهذه الأجواء وأرى الناس تضحك وتتصافح مع بعضها البعض...
أختي زجل تقول: ما هذه الزحمة كيف ستمشي السيارة؟
اتصلت برقية وقلت: نحن بجانب المركز الصحي أين أنت؟!
ردت رقية وقالت: مرحبا أمل... انظر للجانب الأيمن ها أنا بجانبكم هيا افتحوا الباب...
ضحكت وقالت: يا للمفاجأة...
ركبت معنا السيارة وبدأت السيارة تسير ببطء حتى وصلنا منقطة بها زحام شديد وهناك شباب يوزعون عصائر وحلويات... جاء شاب يحمل صينة بها أكواب عصير وأشار إلينا بفتح النافذة...
قلت لرقية ماذا يريد هذا الشاب أهو يبيع العصير...
ضحكت وقالت لا بل هو يوزعه مجاناً... هذا القرقيعان...
فتحنا النافذة وتناولنا العصير...
قالت زجل: لذيذ... هل يمكن أن نشرب كأس ثاني...
قالت رقية... ستشربين وتأكلين ما لذ وطاب...
قلت أين زينب؟!
قالت رقية: هي تنتظرنا في بيتهم... يبعد عنا مسافة ربع ساعة ولكن مع هذا الزحام يمكن أن تكون ساعة ولكن لا عليك سنتجول في «الديرة» مشياً حتى نصل لبيتهم....
قالت أمي أنا سأبقى في السيارة أنتظركم...
قالت رقية: وهل يعقل هذا يا خالتي أنت ضيفتنا... أمي تنتظرك... هيا لنذهب...
بدأنا نمشي وسط تلك الناس المبتهجة... النساء يتجولن في الديرة مع أطفالهن... البنات الصغيرات.. الأولاد... أمام كل بيت طاولة وعليها الأطعمة المختلفة...
أعطتنا رقية أكياس قماشية جميلة كتب عليها «ناصفة حلاوة» وقالت هذا للناصفة... هيا كل واحدة تناصف... قولي ناصفة حلاوة...
قلت أخجل...
قالت بلا خجل... هيا رددي ناصفة حلاوة
وقفنا عند أحد البيوت فقالت زجل: ناصفة حلاوة....
وإذا بالرجل يقدم لنا الشبسات والحلويات والمكسرات.. ويقول متباركين بالمولد كل عام وأنتم بخير...
وصلنا للبيت وما إن وصلنا حتى استقبلتنا أم رقية وصارت تنثر علينا الورود والرياحين... وكأننا في عرس... وهي تقول أهلا بالضيوف... أهلاً بالحبايب...
فرحت كثيراً...
قدمت لنا أم رقية العصيرات المختلفة والتمر والقهوة...
لحظات حتى رأينا زينب قد حضرت... احتضنتني وقالت: لم أستطع الانتظار فقررت أن أحضر إليكم...
جلسنا مع أم رقية للحظات ثم قالت زينب هيا لنخرج... أمل أنت حضرت للخروج والتجول وليس للجلوس... ضحكنا... وقلت عن إذنك يا خالتي أم رقية سنذهب للناصفة...
صرنا نتجول في أرجاء الديرة وكل بيت يقدم لنا ناصفته... وصلنا لمجموعة من الشباب يوزعون العصير فقالت زجل: أريد بعض العصير... جاء أحد الشباب وقدم لنا العصير... قالت زجل: ناصفة حلاوة... ابتسم الشباب وقال: كل عام وأنتم بخير... متباركين بالمولد
كنا نسمع صوت القرآن والأناشيد...
أكملنا مسيرتنا حتى توقفنا عند بيت وضع أمامه طاولة وعليها صور وتحف قطيفية... إضافة لسعف النخيل التي صنع منها سقفاً لتلك الطاولة... توقفت أتأمل تلك المناظر... ثم أكملنا المسيرة حتى رأينا بعض الشخصيات الكرتونية ميكي ماوس فقالت زجل أريد أن أصور معه... فالتقطنا صورة جماعية مع هذه الشخصية...
وصلنا لأحد المنازل كان يوزع ألعاب أطفال «سيارات، مسدسات، دمى للبنات، بالونات...» تقدمت زجل وقالت لصاحب البيت: ناصفة حلاوة... فأجابها الرجل: على النبي صلاة.. كل عام وأنت بخير ومتبارك بالمولد... وقدم لها «دمية جميلة»...
تابعنا المسيرة حتى توقفنا عند بيت يوزع بليلة... جاء أحد الأطفال بصينية عليها أطباق البليلة وقال هيا تفضلوا... بليلة أبو حسن ما فيه زيها...
غمرتني الفرحة وتمنيت أن أبقى لأطول فترة ممكنة في الديرة...
عدنا لبيت رقية وقد قاربت الساعة العاشرة... فقالت زينب هيا لنذهب للقلعة... قلت أي قلعة تقصدين؟! القلعة التي في مسلسل عدنان ولينا...
ضحكنا وقالت زينب أنت من عشاق المسلسلات الكرتونية...
قالت رقية القلعة هي منطقة وسط القطيف تقام فيها الاحتفالات والمهرجانات... ركبنا السيارة واتجهنا ناحية القلعة ولكن الزحام شديد استغرقنا قرابة النصف ساعة، خلال هذه المدة الزمنية كانت رقية تشرح لنا عن الأحياء القطيفية: الكويكب، سوق مياس، الشريعة وسوق الخضار وسوق السمك واللحم، باب الشمال... ونحن في الشارع ونسمع أصوات الأناشيد... ونشاهد الزينة واللوحات التي كتب عليها عبارات الفرح والسرور، حتى وصنا للقلعة وهناك رأينا الحشود والأنوار... فقالت زينب: هنا تقام المهرجانات والاحتفالات... صرنا نتأمل في تلك الأجواء... حتى صارت الساعة الحادية عشرة والنصف...
استمتعنا بتلك الأجواء...
عدنا لبيت رقية واستقبلتنا والدتها بكل حفاوة...
قالت أمي شكراً لكرمكم أختي أم رقية والآن اسمحي لنا أن نعود للدمام...
قالت أم رقية قبل أن تعودي لا بد أن تأخذي هريس وقيمات القطيف...
وقدمت لنا صحن هريس وصحن هريس
قالت زينب: وأنا أيضا أحضرت لكم عصيدة القطيف... هيا تفضلوا
اغرورقت عيني من البكاء فرحاً وسعادة بهذه الليلة التي لا يمكن أن أنساها...
قالت زجل: هل يمكنني أن أشرب آخر كأس من العصير القطيفي...
ضحكنا وودعنا أجمل وأرقى الناس في القطيف
ركبنا السيارة وطوال الطريق أنا وأختي زجل نردد
ناصفه حلاوة …على النبي صلاوه
عطونا من خيركم … ما نفرح بغيركم
عطونا من مالكم … الله يخلي عيالكم
همسة أمل:
الفرح ثقافة فلنتعلّم كيف نصنعها.
للقصة بقية