اللهم أغْنِ كل فقير
يزخر شهر رمضان المبارك ببحور متلاطمة من الأدعية والأذكار والصلوات المندوبة التي تزكي النفس، وتسمو بها إلى مستويات تربوية وروحية عالية، وتقرب النفس إلى الخالق جل جلاله بشكل متسارع ومتصاعد وأكثر نقاءً. وكذلك يضاعف الله الأجر لأصحاب عمل البر وأهل البذل والعطاء ومبادري إطلاق برامج التنمية للمجتمع وداعمي كل فضيلة، لا سيما في شهر رمضان المبارك.
من الأدعية اليومية المندوب قراءتها، والتي يحرص على ترديدها البعض بشكل مستمر الدعاء التالي:
«اللهم أدخل على أهل القبور السرور، اللهم أغْنِ كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كل عريان، اللهم اقض دين كل مدين، اللهم فرج عن كل مكروب، اللهم رد كل غريب، اللهم فك كل أسير، اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين، اللهم اشف كل مريض، اللهم سد فقرنا بغناك، اللهم غير سوء حالنا بحسن حالك، اللهم اقض عنا الدين، وأغْنِنا من الفقر، إنك على كل شيء قدير».
وهو دعاء مروي عن رسول الله ﷺ ويلامس قلب كل إنسان نقي النفس، وطاهر القلب ويمارس آدميته بين الناس، ويعشق التقرب إلى ربه، ولم يدنس قلبه أمراض الكراهية أو الحقد أو الضغينة أو العنصرية أو العرقية أو الغرور أو الأنانية.
ملخص الدعاء هو وصفة تشمل مجموعة أدوية لجملة أعراض لأمراض تصيب أبناء البشرية، وهي:
انقطاع الصلة بأهل القبور بإهداء صالح الأعمال
الانتشال من الفقر بسد الحاجة
تضميد جوع الجوعان بالإطعام
ستر المتشرد الحافي بالكسوة
تفريج دين المدين بالتبرع
تخطي عنق الكربات بالتفريج ومد يد العون
وهكذا يستمر الدعاء للآخر.
لعل إحسان المحسنين في حق موتى بعض المجتمعات وصل لمستوى ملحوظ. أجادوا وتفننوا في إهداء ثواب الأعمال الصالحة، وأضحوا بارين بمن رحل عنهم كما هم بارون بمن هو موجود حي بينهم.
فنجح عدد كبير من الناس في تفعيل فقرة مقدمة الدعاء «اللهم أدخل على أهل القبور السرور» بإطلاق ختمات قرآنية على مدار السنة وعقد صلوات والإنابة في العمرة والحج والتصدق نيابة عمن رحل وهدية ثواب تلك الأعمال للأموات من أحبتهم وأقربائهم. ونقول لأولئك الأحياء شكرًا، هداياكم التي ترسلونها لأهل القبور من أهلكم، فإنها بإذن الله تدخل السرور على قلوبهم.
وكذلك نجح عدد كبير من المجتمعات في إنتاج حلول لمواجهة جوع الجائعين عبر إطلاق سلات الغذاء وسلات إفطار الصائم وسلات الأيتام.
فقرة «اللهم أغْنِ كل فقير» فقرة تستحق الوقوف عندها مطولًا، وقد عنونت المقال بها للأهمية. فمن المشهور أن هناك حديثًا نبويًا شريفًا مفادُه «أن صدق السائل هلك المسؤول». والحديث يحفز كل إنسان مقتدر على استجابة طلب السائل لحفظ ماء وجه السائل أولًا، ولنشر روح التعاطف الاجتماعي مع منكوبي الفقر.
إلا أننا نعيش في هذه الأيام مشهد معقد بعض الشيء، فاختلط فيه الحابل بالنابل ممن يدعي الفقر. فكما أن هناك فجرًا صادقًا وفجرًا كاذبًا، كذلك ابتلي الناس بوجود فقير صادق الادعاء وشخص ميسور منتحل صفة فقير.
يبدو أن صناعة الأفلام الهوليودية المتطورة والمؤثرة حفزت عددًا ليس بالقليل من الطماعين الجشعين بانتحال شخصية الشحاذ المتسول لكسب تعاطف الناس وأخذ بعض النقود منهم. لا سيما خلال شهر رمضان المبارك، حيث القلوب أكثر رقة والنفوس أكثر بذلًا في سبيل الله، فيصطاد المنتحلون في هكذا أجواء للتكسب، وهذا استغلال سيئ جدا من قبل حفنة منتحلين وضرره على المجتمع وحتى على الفقراء كبير جدا. وندعو الجميع للتحقق من صدق ادعاء المحتاج لتمييز بين الصادق منهم من الكاذب قبل إعطائه أي نقود.
الدعاء المذكور آنفًا في مضمونه ومحتواه وأهدافه يدعو ويحث على أهمية التعاطف مع أهل العوز ومد يد العون للفقراء والمحتاجين وإكساء العراة فقرًا ليس بالقول والتمني والدعاء فقط، وإنما فعلًا الملموس والبذل والبرامج والخطط المدروسة المستمرة. نوقن بأن الدعاء المذكور قد تم قراءته ترليونات المرات على امتداد العصور والعقود، إلا أن معدل الفقر في بعض المجتمعات المتدينة يتصاعد، وفي المقابل معدل الفقر في مجتمعات لا تقرأ ذات الدعاء، ولا تؤمن بأي دين في تقلص أو انكماش!
من المؤكد أن أحد أهم عوامل نجاح مكافحة الفقر في أي مجتمع، هو وجود ثقافة وبرامج حقيقية تكافح الفقر إلى جانب تأصيل ثقافة حب العمل وتقديسه ونبذ الكسل. فلعل المجتمع المبتلى بوجود نمو في معدل الفقراء مطلوب من نخبة وعلمائه ومفكريه طرح أكثر من برنامج لمكافحة التواكل والكسل والحث على حب العمل وتعزيز الثقة في الدخول في الأسواق والسعي لكسب القوت الحلال بدل الاعتماد على الإعانات والعطايا المبذولة من قبل الجمعيات الخيرية أو الجهات الرسمية.
وفي كلمة يرددها بعض الأنجلوساكسون مفادها «God will help those who help themselves» أي أن الله سيساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم. وبالفعل فقط وفقط يتغير الإنسان نحو الأفضل إن هو غيّر قناعاته بالأفضل، وأعان نفسه على تطبيق الأفضل.
تم إطلاق عدة برامج للعمل وفتح عدة منصات تمويل وعقد عدة دورات مجانية وتعيين عدة منصات إلكترونية للتدريب، وكل ذلك لجذب المقدمين على سوق العمل وصقل بعض مهاراتهم.
وهنا وعبر هذا المقال أرشد كل شخص مهتم باكتساب قوت يومه وحفظ ماء وجهه، وجعل يده عليا بدل أن تكون سفلى، أن يستثمر وقته وجهوده في تلكم الأمور التطويرية بدل التبرم وبث الشكوى. ومن توكل على الله كفاه. كما أشيد بكل صاحب بصيرة وعلم نافع وخبرة عمل وافرة أن يرشد الآخرين ممن هم أقل حظًا في قوة التحليل والقراءة ومهارات البحث عن الأعمال والعلم بأن يشاركهم بالمعلومة الصحيحة والنصيحة والمقالة والفكرة فالله جل جلاله لا يضيع عمل عامل أراد وجهه الكريم.
نعم، واقع شريحة من قراء الدعاء المشار إليه يخالف ما تصدح به ألسنتهم عند قراءة الدعاء. فتسمعهم يلهجون بالقول ”اللهم أغْنِ كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كل عريان، اللهم ….، اللهم …..، اللهم… اللهم ….. اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين“ ولكن أفعالهم لا توافق دعاءهم. فنأمل أن يكونوا ممن يحضون على إطعام مسكين بحق وحقيق، ويسعون على كسوة فقير، ويبادرون في إصلاح كل فاسد وزجر كل مُفسد في الأرض، ويبذلون اهتمامًا بتحسين أحوال أبناء محيطهم الاجتماعي. فترى بعض أولئك أفعالهم أفعال المراوغين؛ لأنهم الأكثر استحواذًا على خيرات المجتمع، والأكثر احتكارًا للأعمال التجارية والوكالات، والأكثر تعسفًا في التعامل مع البسطاء والأسرع في رفع الأسعار للسلع التي يبيعونها والسعي الدائم من جهتهم لسحق من برزت لهم بارزة، ولا يروق لهم إقدام أصحاب المشاريع الصغيرة بإطلاق أعمال في محيط نفوذ أولئك المراوغين.
وإن تصدق بعض أولئك المراوغون ببعض من المال أو الطعام تضليلًا فإنهم يفاخرون بذلك ليل نهار، ويحرصون على ترويج صور عطاياهم تلك في كل وسيلة إعلامية أو رسائل مواقع التواصل الاجتماعي. فلا أعلم إن كان ذلك السلوك هو مرض حب البروز الإعلامي أو المن والأذى الذي يتبع الصدقة أو حب الفشخرة واحتكار التمييز أو سد الشعور بالنقص. وهذا يعني أن البعض وإن ادعى وإن تمظهر مراوغة بالصلاة والحج والدعاء، إلا أنه مساهم في تعاسة الفقراء ومستفيد من استمرار انتشار الجهل واتساع رقعة الفقراء في مجتمعه وزيادة عدد المقترضين منه والمرتهنين عقاريًا له.
إدراج المحتاجين في برامج تدريبية مدروسة وتأهيلهم للانخراط في سوق العمل هو أحد الحلول الأنجح لمواجهة الفقر، وإن أخذ بعض الوقت. وشخصيًا أدعو رجال المال والأعمال الكرماء والصالحين في كل مجتمع بتوجيه جزء من صدقاتهم وزكواتهم في تبني مبادرات تأهيل مهني / تجاري/ صناعي / سياحي / تسويقي وإلحاق المؤهل من المحتاجين بسوق العمل ليكون ذاك مصداق من مصاديق الحكمة التي تقول ”علمه صيد السمك بدل إعطائه سمكة كل يوم“. والمجتمع الحي هو من يترجم قناعاته وإيمانه ودعاءه وصلاته، ويعالج التحديات والصعوبات التي تواجه حياة أبنائه أولًا بأول عبر مبادرات متنوعة ومشاريع فعالة، Straight roads never create skillful drivers.