أوْقدُوا هَذين المصْبَاحين
وفجأة نمتنع عن المأكلِ والمشربِ وجميع الملذاتِ ونُصبح كالملائكة المقرّبين.
يُصبح الشّيطان دون سلاح، تتهذّب نزعات النّفس الحيوانيّة، وغرائزها المبعثرة بين الجسد والحواس، فجأة تُقذف الذّنُوب دون هوادة، تسمع هاتفًا، يُجْدي نفعًا هذه المرة فهو يردد معك:
﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾
وفي الجانب الآخر الذي لانراه يوحي الله تعالى إلى خزنة جهنم إذا أطلّ علينا هلال شهر رمضان أن يخفف النَار على أهلها كرامة للشهر الفضيل.
اللهم أهلّه براحة البال، وطمأنينة النّفس وخلو القلب من الأمراض.
إنّها دعوة كريمة من ربّ رحيم؛ وعد فأعطى، وأمر فالتزم لأمره عباد مُكْرمون.
فإذا وصلتك دعوة كريمة لصيام الشهر الفضيل فأكرم مثواه وأوقد المصباحين في ظلام نفسك: الصلاة والصيام كما وصفهما أمير المؤمنين إذ يقول في وصيته:
«أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين» يقصد بهما: الصلاة والصيام.
ثمّ عليك بكتاب الله لاتفترق عنه، فالسعيد من جمع بين الشفيعن، يقول الرسول الكريم:
«الصيامُ والقرآن يشفعان للعبدِ يوم القيامة يقولُ الصيام: أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنّهار فشفعني فيه، يقولُ القرآن: ربّ منعتُه النومَ بالليل فشفّعني فيه فيشفعان»
إن مواجهة الجوع في شهر رمضان المبارك حكمة ونور وشفاء من كلّ داء، ولا أظن الفكر المتألق والحسّ الصافي إلا نِتاج قلّة المشرب والمأكل ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «ياموسى أني وضعتُ العلم في الجوع والغربة والنّاس يطلبونه في الشبع والوطن» فضلًا عمّا يتركه الجوع من صحّة البدن، وسلامة الحواس.
فهل كُتب علينا ألّا نأكل وألّا نشرب فقط أم أنّ هناك أسرارا كُشف غطاؤها للخاصّة فقط؟!
وأقصد بهم الذين يسعون دائما للكمال الروحي فيرتبطون بالله تعالى في كل خطوة يخطونها، وترى بصيرتهم نور الله تعالى في كلّ عمل يقومون به.
هم ذاتهم الذين لايتركون ساعات وأيام الشهر الفضيل تنقضي دون أن يتركوا بصمة في قلوبهم، تسعد بها صحفهم، فهم يدركون واجب ضيافة الشهر الكريم جيدا، ويعلمون أنّ شهر رمضان ماهو إلا ﴿أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ «البقرة: 184»
لذلك لانراهم إلا في سياج الخير والبر والإحسان لايخرجون خلف أسواره.
ينتهزون فرصة قدوم شهر رمضان لنشر الخير واستقاء منابعه بكل وسيلة.
وكم أُكبر شأن ربّة المنزل حينما ترتّب أمور عيد الفطر المبارك قبل دخول الشهر الفضيل، وتحجم عن زحمة الأسواق في الشهر الكريم لتزاحم أهل الذّكر على موائد القرآن الكريم!
وكم أنا فخورة بمن وضع تلك الجداول المُخصّصة لأجزاء القرآن الكريم التي تشجع على ختم القرآن لأكثر من مرة!
ثمّ إنني أنظر بعين الإكبار والتقدير لمن يكفّ لسانه عن ذكر عيوب النّاس ومايلبسون ويقتنون في هذا الشهر الفضيل وفي كلّ وقت.
إننا نحمل مسؤولية الكلمة التي تتردد في أعماقنا فليكن خروجها من طِيب الحياة الذي يظلّ له رائحة زكيّة قويّة الثّبات في ذاكرة من حولنا.