آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:35 م

حقُّ المؤلِّف وحقُّ القارِئ.. إشكاليَّة التملُّك والتصرُّف

محمد الحميدي

الكتابةُ امتدادٌ، يصلُ ماضِي المعرفةِ بلاحقِها، فيعملُ على الارتِقاء بالحضَارة والثَّقافة، لهذا يتمُّ الاحتفاظُ بالكتاباتِ والمؤلَّفات؛ من أجلِ الرُّجوع إلى آراءِ أصحَابها؛ اعترافاً بفضلِهم في إثراءِ البشريَّة، ودفعِها نحوَ التطوُّر والتقدُّم، حيثُ المعرفةُ لا تتوقَّف عندَ جانِب، بل تتعالَق وتتكَامل، إذ كَما للفِيزيَاء والكِيميَاء والفَلَك أهميَّة، كَذلك للتَّاريخ والأخلَاق والمنطِق أهميَّة، فلا فرقَ بينَ المعرِفتين ”النظريَّة والتطبيقيَّة“ في إثراءِ الوجُود الإنسَاني، والدَّفع به نحوَ الأمَام، ومن هذهِ الأهميَّة البالِغة للمعرِفة تمَّ تنظِيم آلياتِ الكتابَة، ووضعِ شُروطها وقوانِينها، وأوُّلها نِسبة الكتَابات والآراءِ إلى أصحابِها.

نسبةُ الكتاباتِ والمؤلَّفات إلى أصحابِها؛ تعنِي امتلاكَهم لها، وحقَّهم في التصرُّف بمُحتواها؛ تعديلاً، وتغييراً، وتبديلاً، وحذفاً، واجتزاءً، واختصاراً، وقد يصِل الأمرُ إلى الإلغَاء، والمحوِ، والتراجُع، وهيَ العمليَّات التي يلجأُ إليها المؤلِّفون حِين يكتشِفون عيباً، يسبب تشوُّه كتاباتِهم، أو تشوُّه أفكَارهم ومقاصِدهم.

حقُّ المؤلِّف

انتقالُ المعرفةِ يتطلَّب شخصَين؛ الأوَّل يمتلكُ المعرِفة، والثَّاني مُستعدٌّ لاستقبَالها، ولا يلزَم أن يكُونا حاضرَين في زمانٍ واحدٍ، كَما هيَ الطَّريقة التقليديَّة المدرسيَّة، فيكفِي أن يكتُب الأوَّل كتاباً، ليأتِي الثَّاني ويستفيدَ منه في بِناء أفكَاره، التي سيدوِّنها لاحقاً في كتابٍ، يأتِي بعدَه مَن يستفِيد منه، وهكَذا يتحقَّق انتقالُ المعرِفة ونموُّها، عبرَ الكتَابات التي تتسَاوى من ناحِية الأهميَّة، لكنَّها تتفاضَل من ناحِية الأسبقيَّة في طرحِ الآرَاء، والأفكَار، والصِّيغ، والأسالِيب، والبراهِين.

مزيَّة الكتاباتِ تتمثَّل في أنَّها ترسُم مساراً تاريخيًّا؛ يبتدِئ من السَّابق إلى اللاحِق، ويصِل الماضِي بالحاضِر، يحفظُ للأفرادِ والأُمم مساهماتِهم في نموِّ المعرِفة وارتِقاء الحضَارة، لهذا تتَّسم نِسبة المؤلَّفات إلى أصحابِها بالأهميَّة الشَّديدة، ويجرِي المحافظةُ عليها، ومنعُ الاقتِطاع منها؛ إلا بإذنِ مؤلِّفيها؛ أصحابِ الحقِّ الحصرِي في إجراءِ التَّعديلات والتَّبديلات، وبعدَ وفاتِهم، يمنعُ منعاً تامًّا المسَاس بكتاباتِهم، وإلا عُدَّ ذلكَ اعتداءً على حقِّهم التَّاريخي والقانُوني، وسيُعتبر المعتدِي إمَّا لصًّا أو مدلِّساً؛ هدفُه سرِقة معارفِ الآخرِين أو تحريفُها.

سرقةُ الجهودِ جريمةٌ موصوفةٌ بحسَب القوانِين والشَّرائع الوضعيَّة والسماويَّة، التي كفلَت للمرءِ حقَّ التصرُّف بحريَّة فيما يمتلِك، بما يتلاءَم معَ احتياجَاته ومتطلَّباته، ومن ضِمن ممتلكَات الإنسَان كتابَاته ومؤلَّفاته وآراؤُه، إذ لا يجُوز المسَاس بها، والأخذُ منها بالاقتِباس والنَّشر، إلَّا عبرّ حقٍّ ممنُوح من المؤلِّف أو نائِبه؛ كَورثتِه وناشرِه، وبناءً على هذَا الحقِّ، وُضعت اللوائِح القانُونيَّة الخاصَّة بحقُوق الملكيَّة الفكريَّة؛ من أجلِ تنظِيم علاقَة المؤلِّفين بالنَّاشرين والقرَّاء.

علاقةُ المؤلِّف بالقارِئ علاقةٌ إشكاليَّة من ناحيتَين؛ الأُولى تتمثَّل في قبُول أفكَاره، والثَّانية في مناقشَة الأفكَار، والإضَافة علَيها، وفي الحالتَين سيُوصَف القارِئ ب ”طالِب عِلم“، وسيتلقَّى المعرِفة على هذا المبدَأ، كَما يحدُث في مجالِس العُلماء وحلقَات الجوامِع؛ حِين تُلقى الدُّروس، ثم تُجمع وتُعنون تحت اسِم ”الأمَالي“؛ أيْ ما أملَاه الأُستاذ على طلَّابه، الذينَ يكتبُونها، ثم يعرِضُونها عليه لإقرارِها، وبعدَ ذلكَ تُدفع إلى ”الورَّاقين“، فينسخُونها للرَّاغبين، مع الحرصِ على عدَم إجراءِ أيِّ تغييرٍ في المكتُوب.

حقوقُ المؤلِّفين قديماً وحديثاً متشابهَة، فكَما لا يحقُّ للورَّاقين والنُّسَّاخ إجراءُ تغييراتٍ على المكتُوب، كَذلك لا يحقُّ للنَّاشرين التعديلُ عليه؛ إلَّا بعدَ استِشارة المؤلِّف وأخذِ إذنِه، أمَّا ما يحصَل من سقُوط كلماتٍ أو طَمسِها، فإنَّما هي أخطَاء وعيُوب، ويقابلُها في الطِّباعة الحدِيثة اضطِراب الصَّف، وتداخُل النُّصوص، وسقُوط الأحرُف والكَلمات، وهيَ أُمور يتمُّ تداركُها وإصلاحُها لاحقاً.

تظلُّ العلاقة معَ القارِئ هيَ الأهَم؛ إذ تمتدُّ إلى أبعدَ من الكلماتِ المكتُوبة، حيثُ دراسةُ الأفكَار والنُّصوص، ومقارنَة أفكارِ المؤلِّف بأفكَار الآخرِين، من أجلِ الوصُول إلى استِنتاجات، ثمُّ العملُ على تطويرِها، تُمثِّل جَوهر العَلاقة؛ لاشتِمالها على العمليَّات الأربِع الأساسيَّة، التي يمارسُها كلُّ قارِئ أثنَاء ممارسته القِراءة.

حقُّ القارِئ

لا يتوقَّفُ حقُّ المؤلِّف عندَ إصدارِ كتابِه، بل يستمرُّ ضِمن أشكَال مختلِفة، أبرزُها نِسبة ما ورَد فيه من آراءٍ وأفكارٍ إليه، بدُون تحرِيف أو تغيِير؛ وهذا يعنِي التشابُك معَ القارِئ، حيثُ سيغدُو الكتَاب متاحاً للتَّداول، يتشَارك القرَّاء، ويتدارسُون ما جاءَ فيه، ثمَّ يتناقلُون ويعلِّقون عليه، وهيَ ردُود أفعَال، تأتِي بكلِّ عفويَّة وتلقائِيَّة؛ لأنَّها تنبَع من داخِل النَّفس، التي حِينما تستشعِر الحسَن والمُتقَن تمِيل إليه، وحِينما تستشعِر القبِيح وغيرَ المُتقَن تنفُر منه، وهوَ ما حصَل معَ الكِتاب، الذِي ينفُر القارِئ من مطالعتِه حينَ يكُون هابِط المستوَى، ويقبُل على مطالعتِه حينَ يستشعِر المتعَة واللذَّة والإضافَة التِي يُقدِّمها.

تتنوَّعُ صورُ العلاقةِ ما بينَ المؤلِّف والقارِئ، وتتفرَّع إلى إيجابيَّة وسلبيَّة، حيث أدنَى الصُّور الإيجابيَّة؛ تتمثَّل في الإعجَاب، ثمَّ الاعتِزاز، وبعدَها الفَخر، وأخيراً الصَّداقة التِي قد تستمِر زمناً طويلاً، وتشمُل كتَابات وكلِمات ومواقِف المؤلِّف، إذ سيلاحقُها ويطَّلع عليها، وربَّما تمثَّلها وتشابَه معها، ليتبنَّاها ويأخُذ بها، وفي مقابلِها تأتِي أدنَى الصُّور السلبيَّة، التي تتمثَّل في عدَم الإعجَاب، ثمَّ الكُره، وبعدَها الذَّم، وأخيراً النُّفور، وفيها ستغدُو العلَاقة متوتِّرة وعِدائيَّة؛ يتصدَّى فيها للرَّد على آرائِه، وتفنِيد ما جَاء به، وإزَاء هاتَين العَلاقتين الجدليَّتين، يظهَر ”الحِيَاد“ كَأبرز وأشهَر صُور العَلاقة، حيثُ يكتفِي القارِئ بالاستِفادة والاستِمتاع بما يقرَأ، بعيداً عمَّا يُحسُّ ويشعُر.

الفائدةُ والمتعةُ هدفانِ يضعُهما كلُّ قارئٍ نُصبَ عينَيه، فعبرَهما تتشكَّل علاقتُه معَ الكتَاب، الذِي سيحلُّ محلَّ المؤلِّف، حيثُ سينتهِي دورُه بعدَ الطِّباعة والنَّشر، رُغم احتفاظِه بحقُوق التَّأليف؛ ما يُشير لتبدُّل العَلاقة معَ الثَّقافة، إذ تقلَّص دورُ المؤلِّف من كَونه حاملاً للحقِيقة، وموجِّهاً للقرَّاء، إلى ”أحَد“ الحامِلين لها، والمشارِكين في التَّوجيه والدِّفاع عنها، وبهذَا يرتقِي دورُ القارِئ من مجرَّد القراءَة والاستِقبال، إلى المناقشَة والمراجعَة وإبداءِ الرَّأي، وهيَ حالةٌ إشكاليَّة، قد تؤدِّي إلى صِدَام وقطِيعة معَ آراءِ وأفكَار المؤلِّفين، لكنْ يظلُّ هذا حالُ الثَّقافة، فهيَ لا تسِير بالتَّبعيَّة، ولا تتطوَّر معَ الجمُود، بل تحتَاج مناخَات من الحريَّة، والانفِتاح، وقبُول الآرَاء والأفكَار.

يتضاءلُ دورُ المؤلِّف، ويتقلَّص حضُوره، معَ استمرارِ نموِّ الحريَّة، واتِّساع نِطاقها، حيثُ يُتاح للقارِئ أنْ يُمارس التَّفكير بشكلٍ أكبَر، ويناقِش الأفكَار بصُورة أعمَق، فتتكوَّن أفكارُه ورُؤاه، التِي ينطلِق منها في مُقارباتِه، بعيداً عن المؤلِّف، وإعجَابه به؛ لأنَّ التَّفاعُل الثَّقافي، ينصبُّ على المكتُوب لا الكَاتب؛ لِهذا سيغدُو طبيعيًّا أنْ يذكرَ القارِئ رأيَه بعدَ القِراءَة، ليخبرَ الآخرِين ماذَا قرأَ وكيفَ فهِم، وهُما أمرَان مؤسِّسان لكلِّ رأيٍ مُستقِل.

حريَّةُ المُثاقَفة، ومُشاركةُ الرَّأي، والوصولُ إلى الاستِنتاج؛ أمورٌ تمارسُ بتلقائيَّة من قِبَل القرَّاء، الذينَ تنصبُّ اهتماماتُهم على الكتَابات؛ من أجلِ مناقشَة ما جاءَ فيها، ومعرِفة ما تحتَوي عليه، وأثناءَ ذلك، ربَّما خانَتهم الذَّاكرة، ولم تُسعِفهم بالوصُول إلى إجابَات على أسئِلتهم، التِي تستمرُّ بالدَّوران داخِل أذهانِهم؛ ما قدْ يؤثِّر على تبنِّيهم واتِّخاذهم للآراء، وإيمانِهم وقبُولهم بالأفكَار.

تفسيرُ الكتاباتِ تعدُّ المهمَّة الأعمَق، والأكثَر مشقَّة بالنِّسبة للقارِئ، حيثُ الجهدُ يقعُ عليه وحدَه، فمعَ ابتعادِ الكَاتب، وتوارِيه عن الأنظَار، لا يعودُ أمامَه إلَّا الانشِغال بالمكتُوب، وتأمُّل ما جاءَ فيه، ومُحاولة استيعَابه، إلى أنْ يتكوَّن رأيُه الخاصُّ، وتنضجُ رُؤاه الشَّخصيَّة، التِي تبتعِد عن المؤلِّف، وما أرادَ من كتاباتِه، فتغدُو فهماً مستقلًّا خاصًّا به، وهوَ الهدَف الذِي يسعَى جميعُ القرِّاء للوصُول إليه.

للمؤلِّفِ الحقُّ في الكِتَابة، وللقارِئ الحقُّ في الفهمِ والتَّفسير، حيثُ الكَاتب يضعُ في ذِهنه تصوُّراً معيَّناً، وهوَ ما قدْ يختلِف عن القارِئ، الذِي ربَّما لا يتَّفق معَه، بلْ يرَى نقِيض تصوُّره، بحسَب ما يتوفَّر لدِيه من مُعطيَات وخِبرات، فيحدُث الانفصَال بينَهما، وتُصبح علاقتُهما إشكاليَّة.

إشكاليَّة التملُّك والتصرُّف

للمؤلِّف الحقُّ في تعدِيل، وتبدِيل، وحَذف، وزيادةِ الكَلمات، والعِبارات، والنُّصوص، وكَذلك إعادَة التَّبويب، والتَّرتيب، والتَّنسيق؛ كي يظهَر المكتُوب بأفضَل طريقَة، وأكثرِها سُهولة وروعَة، في إيضَاح القَصد، والدِّلالة على المعنَى، والوصُول إلى الغَاية التِي أُنشِئ من أجلِها، وفي قِبالِه يأتِي القارِئ، الذِي يمتلِك حقَّ القراءَة، والفَهم، والتَّفسير، والتَّأويل، والتَّعليق، والاستِفادَة من النُّصوص والعِبارات، في أحادِيثه ودرُوسه واقتباسَاته، فهذَان الحقَّان، سواءً أكُتبا ووُضعت لهما قوانِين وتنظِيمات، أم لم يُكتبا وبقِيا ضِمن دائِرة المُتعاقَد والمُتعارَف، سيكُون لهما التَّأثير نفسُه؛ إذ لا يجُوز خرقُهما وتجاوُزهما، وإلَّا استحَال المشهَد الثَّقافي إلى ألوانٍ من الفوضَى، والاعتِداء على الحقُوق.

الاعتداءُ الثَّقافي ينقسِمُ إلى اعتداءٍ على حقُوقِ التَّأليف، واعتداءٍ على حقُوق القِراءَة، حيثُ المؤلِّف مُطالَب بتجوِيد كتاباتِه، وجعلِها سهلَة واضِحة، مؤدِّية للمقصُود، وكذلكَ المحافظةُ عليها، وعدَم إهمالِها وتركِها عُرضة للتَّلف والنِّسيان، وهوَ ما يتَّضح في القصَص المرويَّة عن بعضِ السَّابقين؛ كَأبي حيَّان التَّوحيدي، إذ قِيل أنَّه جمَع كُتبه وأحرَقها؛ لأنَّه رأَى أهلَ عصرِه لا يستحقُّون الاطِّلاع عليها؛ لعدَم تقدِيرهم لها، وإعطائِه المكَانة التِي يستحقُّها.

الجاحظُ سبقَ التَّوحيدي في هذَا السُّلوك، إذ بسببِ عدَم اهتِمام أبنَاء بيئَته بالكتَابات المُعاصِرة، وبحثِهم عن الكتَابات القدِيمة، أو لمؤلِّفين مشهُورين؛ اضطرَّ لإخفَاء اسمِه، كَما نسَب كتاباتِه إلى أشخاصٍ مجهُولين، وحِينما رأَى إقبَال النَّاس واحتفائِهم بها، أعَاد نِسبتها إليه، وهوَ حظٌّ لم يُحالف ابنَ المُقفَّع، الذِي نالَ عقاباً بالقَتل؛ نتيجَة الشَّك بكُونه مؤلِّف كتابَي «كَليلة ودِمنة - أَلف لَيلة ولَيلة»، اللذَين بقِيا مجهُولَي المؤلِّف، وبهذَا لم يحصَل على المكَانة الأدبيَّة التِي يستحقُّها، رُغم انتشارِ الكتَابين، والإقبَال على قراءَتهما، بخلافِ الكَاتب المصرِي الحدِيث محمَّد حُسين هيكَل، الذِي أصدَر أوَّل رِواية عربيَّة «زينَب»، ووقَّعها باسِم ”فلَّاح مصرِي“، فحِينما رأَى قبُول النَّاس، واتِّجاههم لِقراءَتها؛ أعَاد طِباعتها باسمِه الصَّريح.

بسببِ رغبةِ الحصُول على المكَانة الأدبيَّة المُستحقَّة، كَما في حالتَي التَّوحيدِي والجَاحِظ، أو بسبَب الخَوف من السُّلُطات السِّياسيَّة والدِّينيَّة والاجتماعيَّة، كَما في حالتَي ابنِ المُقفَّع وهيكَل؛ سيتبيَّن اختِلال العَلاقة بينَ المؤلِّف وكتَاباته، فما كَان يُعتبر سلوكاً اعتياديًّا؛ سيعدُّ ”جريمَة ثقافيَّة“، تستحقُّ العِقاب، حيثُ التَّنازُل عن الكتَابات، وخُصوصاً بعدَ انتشارِها وشُهرتِها؛ يعنِي التَّخلِّي عنها، وهوَ شيءٌ لا يمتلكُه المؤلِّف؛ لأنَّها ستغدُو تُراث أمَّة، وجزءاً من تاريخِ وجُودها، ومُساهمتِها في تطوُّر وارتِقاء الثَّقافة والحضَارة.

تتنوَّعُ الجرائمُ الثقافيَّة وتتفاوتُ خطورتُها، فأسهلُها إغفالُ اسمِ المؤلِّف، وعدَم كتابتِه، ثمَّ نسبةُ الكتاباتِ إلى غيرِ أصحابِها الفعليِّين؛ كَقضيَّة ”الانتِحال“، التِي بسببِها كتَب طَه حسِين «في الشِّعر الجاهلِي»، وفيه أنكَر نسبةَ الشِّعر الجاهلِي إلى شُعراء ما قبلَ الإسلَام، لوضُوح تأثِيرات القرآن عليها، لهذا عدَّها أقرَب لرُوحه، ورآها كُتبت فيه، أمَّا أخطرُ الجرائِم، فتلكَ المُتعلِّقة ب ”الإغَارة“ على كتَابات الآخرِين، وإجبارِهم على تركِها؛ ليتمَّ تسجيلُها باسمِ مالكِها الجدِيد، كَما فعَل الفرزدقُ معَ الشُّعراء المغمورِين، إذ حِينما يستمِع إلى بيتٍ رائِع في صِياغته ومَعناه، يطلبُ من قائِله تركَه ونِسيانه، وإلَّا سيقُوم بهجائِه، وهيَ العقُوبة الثقافيَّة الأقسَى في ذلكَ الزَّمان.

أسوأُ الجرائمِ الثقافيَّة، وأكثرُها خُطورةً على الإطلَاق، ليسَ سرقةَ الأشعارِ والكتَابات، بلْ التَّخلِّي الطَّوعي عنها، لصَالح أشخَاص؛ لا يملكُون قُدرة الكتَابة والتَّأليف، وهوَ ما سيدخُل ضِمن الغشِّ والتَّدليس للبيئَة الثقافيَّة، والمُنتمِين إليها، وسيقُود إلى خِداع الأجيَال، وتحرِيف تُراثِها، عبرَ إشهَار من لا يستحِق، والإشادَة بمن لا يلِيق، فهوَ أحدُ الموانِع التِي تمنَع نُمو الأُمم وتطوُّرها بصُورة صحِيحَة، كَما تُعِيق مُساهمتَها في البِناء الثَّقافي والحضَاري الإنسَاني.

ختاماً

امتلاكُ المؤلِّف لكتاباتِه، والقارئُ لفهمِه، لا يعنِي إطلاقَ يدِهما؛ لكُونهما خاضعَين لقانُون يعمَل على تنظِيم علاقتِهما، لذَا فإنَّ أيَّ خرقٍ للقانُون؛ سيعدُّ انحرافاً يقُود إلى عواقِب لا يمكنُ التنبُّؤ بها؛ أبسطُها عدَم نسبةِ الكتَابات إلى أصحَابها، وأخطرُها خداعُ المجتمَع والتَّلاعُب بتُراثِه وتاريخِه، وهيَ الجريمَة التِي لا تُغتفر، ولا يُمكن القبُول بها.