آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:44 م

أدب الرسائل عند سلمان الصفواني

ياسر آل غريب *

تنطلق أهمية الرسالة من كونها تواصلا بين طرفين في لحظتها إلى أن تصبح في يوم من الأيام وثيقة تاريخية شاهدة على الزمن بما تتضمنه من معلومات ورموز وإشارات وأساليب تدل على حالات سابقة. أدب الرسائل أو كما عرف عند العرب بفن الترسل مر بسلسلة من التحولات الثقافية شأنه شأن بقية الفنون الأدبية ابتداء من عصر الشفاهية ثم مرحلة الكتابة حتى هذه اللحظة الألكترونية الحالية.

من الكتّاب الذين جعلوا رسائلهم مشاعة للجميع الأديب سلمان الصفواني «1899 1988 م» المنحدر من عشيرة آل إبراهيم التي تسكن بلدة صفوى على الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، وإليها ينسب وعاش فيها نشأته المبكرة الأولى ثم غادرها متجها إلى البحرين وتعلم فيها إلى أن استقر في النجف الأشرف وبغداد طلبا للعلم حتى أصبح من النسيج السكاني العراقي.

كتاب «محكوميتي» هو عبارة عن مجموعة من الرسائل كتبها إلى زوجته خلال 4 أشهر أثناء مكوثه في سجن بغداد المركزي 1936 م، وفق الحكم الذي أطلقه المجلس العرفي العسكري في الديوانية، متهما بالتحريض على ثورة الفرات الأوسط أيام الحملة البريطانية على العراق. ولهذا الكتاب قصة من المعاناة التي توالت فصولها على صاحبه فقد طبع في مطبعة العرفان بلبنان 1937 م ولم ير النور إلا بعد 15 عاما بسبب منعه من دخول العراق، ضمن قائمة الكتب المحظورة آنذاك؛ لما فيه من البوح الواقعي. إلا أنه نشر بشكل آخر في عدة حلقات في صحيفة الانقلاب التي كان يصدرها شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري.

كتب الصفواني مذكراته ليس بغرض التجارة، إنما لنفسه وللحقيقة والرأي العام - كما عبر في مقدمة الكتاب - ولا غرابة في هذا الأمر فهو يمتلك حسا ثقافيا نما معه مع تحصيله العلمي الأول وانخراطه في العمل السياسي والإيمان بالكتابة التي تعبر عن الواقع لا سيما أنه صحفي أسس وأصدر صحيفة «اليقظة» وهو بعنفوان شبابه في عقده الثالث.

الملامح الثقافية للكتاب:

1 - استعمل الكاتب لغة وسطية فلم يلجأ إلى التكلف المعجمي وإنما قدم يومياته بلغة سلسة واضحة المبنى والمعنى؛ وهذا يعود لاشتغاله بالصحافة اليومية، خاصة أن هذه الرسائل موجهة إلى زوجته وعادة ما يبدؤها بـ «عزيزتي» المفتتح القصير والمكثف الذي ينطلق بعده منسرحا في أشواط الكتابة.

2 - تعامل مع السرد باحترافية في التقاط التفاصيل الدقيقة في حياته خلف القضبان عبر مشاهداته اليومية كما في رسالته التي عنونها بـ «القدح السري» التي يصف فيها «الطاسة» المخصصة للنزلاء متعددة الاستعمال لشرب الماء وللتمن والمرق، وهي ذاتها تستعمل لحمل الماء في المرحاض والاستحمام وغسل الملابس!! وطالما ودّ لو أنه عنده آلة تصوير ليلتقط النماذج الغربية في ذلك المكان البائس.

3 - لك أن تعرف كيف تشكل الكاتب ثقافيا باستحضاره نخبة من الرموز كعلي بن أبي طالب والحسين وجعفر الصادق والمهاتما غاندي وجبران ودعبل وطرفة بن العبد ودعبل الخزاعي وآخرين.. عبر استشهاده بمقولاتهم مع كل تدفق وجداني ومع كل التماعة معرفية تمر عليه في لحظاته المأسورة.

وكأن هذه الشخصيات تخفف من غربته وتقوي مناعته الفكرية.

4 - افتتِحَ الكتابُ بالآية القرآنية من سورة يوسف ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ واختتم أيضا بآية من سورة إبراهيم ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ومابين الآيتين امتدت سطور هذه اليوميات التي يغلب زمنها النفسي زمنها الواقعي، حتى يخيل لنا أنها أكثر من 4 أشهر؛ لكثافة ماصوره صاحب المعاناة.

5 - إضافة لما هو موجود في الكتاب من قصص ووصف شخصيات تفور فوهة النقد عند هذا المثقف، بدءًا من التذمر من اللوحة المعلقة على باب السجن «دار التهذيب والإصلاح» التي يعتبرها «دار التعذيب والانتقام» إلى نقد الأوضاع التي عاشها في البيئة الموحشة بحسب تعبيره. حاثا المسؤولين عن التفتيش عن العلة المزمنة في جسم الأمة.

ومع ما لهذا النقد من أجواء نفسية صاخبة إلا أنه يعود إلى مناهله الصافية ناطقا بالحكمة مثلما ورد في رسالته «شعور وأمل»: ”قد يضعف الأمل أو يقوى وقد يتحقق الرجاء أو يخيب غير أنه لا يكون يأسا، وما مصدر الأمل إلا تلك القوة الخفية التي أطلقنا عليها اسم «الله» جلت عظمته“.

6 - على هذه الصفحات ثمة مرادان اثنان: قريب بكون هذه الكتابة تعتبر تنفيسا عن قلب خاض معترك الحياة وأحس بالقسوة ففاض بالالم، أما المراد الثاني البعيد فهو يتجاوز التجربة الشخصية الخاصة إلى ماهو أعمق في نقل الصورة التاريخية للعراق في الثلث الأول من القرن العشرين.

سلمان الصفواني أو سلمان القطيفي كما يلقب أحيانا.. ابن الجزيرة العربية وبلاد الرافدين رغم ما لحقه من مشقة النفي وظلمة الزنازين إلا أنه أثبت قدراته الهائلة ففي مجال الكلمة ألف مجموعة من الكتب وترأس عدة صحف واشتغل مديرا لإذاعة قصر الرحاب العراقية، وفي مجال العمل الوطني كان من المؤسسين لحزب الاستقلال إلى أن أصبح وزيرا لشؤون الدولة في حكومة عبدالسلام عارف واستمر في حكومة أخيه عبدالرحمن عارف في الستينات الميلادية.

اليوم وأنا أقرأ هذه الرسائل بعدما مضى على كتابة أصلها 88 عاما أدرك أن للكلمة مفاعيل الخلود التي تتجاوز الزمان والمكان، وأن صاحب الكلمة يبعث روحيا مرة أخرى بإعادة قراءته.