آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

الإعدام الاجتماعي

عبد الواحد العلوان

الإعدام الاجتماعي هو حكم من أقوى الأحكام التي يطلقها المجتمع على الفرد، والمجتمع هو الأقوى بعد حكم التشريع الإلهي ”القرآن الكريم والسنة النبوية“. فمن المعروف أن المجتمعات أقوى في الأعراف والتقاليد والأحكام التي يصدرها المجتمع وأبناء المجتمع.

لكي لا نذهب بعيدًا جدًا، سنقرأ من سيرة الأربعين عامًا الماضية، والتي دارت عنها بعض حلقات مسلسل طاش ما طاش السعودي الشهير، والذي كان أيقونة المجتمع السعودي، والذي يعبر عن كل مجريات وأحداث المجتمع السعودي بالفن والصوت والصورة، وينقل كافة أفكاره ومشاكله ومحاولة علاجها بالفن والتمثيل.

ناقش مسلسل طاش ما طاش في إحدى حلقاته، أن الدولة حفظها الله ورعاها، في العقود الماضية، حاولت تطوير المجتمع وتعبيد الطرقات والحواري بالأسفلت، فخرج في وقتها بعض المتطرفين وحاربو الأسفلت وحاربو التطور والتقدم، باسم الدين والتقاليد والأعراف المجتمعية، بل وطبقة من مثقفيها ورجال الدين كانت لهم سيادة وسهولة في التعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم، وتشريعها وتسويقها للعامة بأنها عرف أو تقليد مجتمعي ويجب عدم المساس به، بل والالتزام به كأنه حكم شرعي مستنبط من القرآن والسنة النبوية.

وحلقة أخرى على قيادة المرأة للسيارة، وكيف بعض المشايخ والعلماء وبعض المفكرين سوقوا لفكرة أنها حرام، وأنها من المحرمات، والمجتمع يرفضها رفضًا قاطعًا، بل سوف تفشل أي فكرة تخرج من هذا السياق، وبعد قرار الدولة حفظها الله ورعاها والتنظيمات التي خرجت تواكب هذا القرار وتعزز القرار بل وتحذر من يعترض على هذا القرار أو يحاول التحرش أو المساس بمن تقود سيارتها، بأن العقوبة في انتظاره، والسماح بقيادة المرأة للسيارة، فرح المجتمع السعودي بها، بل وقابله بالدعم وساندها لأنها كانت قضية مؤرقة للمجتمع، بل ولحاجة قيادة المرأة ومواكبتها التطور والوظيفة والنمو الاجتماعي، كانت مرحب بها اجتماعيًا، وصحح بعض المشايخ مساره وفكره تجاه هذه القضية الشائكة، فكان حكم المجتمع وأبنائه هو من أنجح هذه القرار بقبوله ودعمه.

إلى أن بزغ شعاع الاعتدال والتحضر في حكم بن سعود، وسار عليه كافة أبنائه، ووصلنا اليوم إلى التمدن والحضارة بل نسابق الزمان في فرض بساطها في كل شبر من وطننا الغالي، بالعلم والتمسك بالتقاليد والأعراف التي تنهض وتنمي البلاد والعباد وتيسر وتسهل على أبناء المجتمع، وليست التي تمنع التحضر والتمدن، أو تقف بوجه تيار التغيير الذي يأخذنا للمستقبل.

ماذا لو جارنا بالمنزل أطاع نفسه وأدمن المخدرات، أو أجرم بحق أحد من عامة المجتمع جريمة أخلاقية، أو سرقة لا سمح الله، وأودع السجن، وغاب عن المجتمع 15 سنة، وتم سجنه وأخذ عقوبته وخرج من السجن، للمجتمع، وواظب على القرآن الكريم والصلوات في وقتها، وصحح من سلوكه وأخلاقه وعاد إلى ربه، وتاب ومن تاب تاب الله عليه.

قال تعالى ﴿إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب

﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

ومن تاب تاب الله عليه، خرج للمجتمع وعاد ليمشي في الطرق التي كان يمشي فيها قبل تلك الجريمة، ودخل الأسواق والمساجد، والناس لا تزال تنظر له نظرة ”المجرم“ صاحب السوابق، بل زاد من الطين بلة، هو أنه أراد أن يستر على نفسه بالزواج، وينشأ من جديد، وتقدم لعدد من الأسر وبعد السؤال عنه، قالوا للأسف طلبك مرفوض، طلبك مرفوض، وأصبح عازبًا مدى العمر، وأتخذ قرار برفض الزواج بل ومقاطعته.

دخل المسجد ليصلي وبعد التحايا والسلام والانتهاء من فرض الصلاة، أخذ ليسلم عن يمينه وعن شماله، وما أن رفع عينه في عين من على يمينه، رآه وعرفه، وأمتعض بعد السلام عليه، بأن هذا المجرم، المسجون ومن أرباب السوابق يضع يده في يدي..؟!

عاد أخينا المجرم التائب لمنزله، وبعد معارضة المجتمع له وعدم تقبله من المجتمع، وعدم تقبل حتى أقرب الناس له ولربما عائلته وأسرته، بأنه تائب وأراد فقط خط رجعة لله، وأراد فرصة أخرى ليتوب توبة نصوح، ويعود لله ولطريق الله، ولكن حكم المجتمع للأسف كان حكم قاسي، وحكم عليه ليس 15 عامًا سجن بل حكم عليه بالمؤبد وبالإعدام، لكي لا تبقى له سيرة، ولا يبقى له تاريخ، ولا يمنح فرصة لتقديم نفسه من جديد، ك شخص تائب.

أليس حكم المجتمع على هذا الفرد حكم قاسي؟

هل نحن كمجتمع بهذه القسوة، وبهذه القوة التي تمنعنا أنفسنا من أن نصفح ونسامح ونتقبل شخص تاب لله وربي قبل التوبة، وربي وعد التائب توبة نصوح بالتوبة ووعده بالمغفرة، طالما لم يظلم أحد في سلب حقوقه، ولربما حاول أن يعوض ما فعله في سابق طيشه وتهوره ومراهقته، هل نحن نعتبر هذا السجين ابننا؟

ماذا لو كان هذا السجين ابن لنا؟

كيف سوف نتعامل معه، ومع قضيته، وكيف ندعمه اجتماعيًا؟

هل نود أن نضعه في المجتمع ونسوقه للناس بأنه تائب، وأنه رجل، وأنه شاب ومراهق وفعل ما فعل، ولابد يا مجتمع أن تقبل به، وبحكم قوة أسرته أو عائلته لربما يتعاطف معه الكثير، ولكن لو كان هذا الشاب ليس له موجه، وليس له أب ولربما ليس له أسرة كبيرة، تُسوقه وتساعده وتدعمه ليعود للمجتمع بصورة صحيحة وشرعية ويكسب فرصة أخرى من حكم المجتمع القاسي ماذا سوف يحل به، وأين ستضع أقدامه؟

هذا وأنا كاتب هذا المقال وضعت نفسي في حيرة، حينما أردت أن أشخص هذه الحالة، ولم أجد حل لها، واستمريت في البحث عن إجابة بداخلي، هل لو كان جارنا هذا الشاب سوف أتقبله وأضع يدي بيده بعد سوابقه أو جرائمه التي فعلها وبعد محكوميته بالسجن؟

راجعت نفسي مرارًا واتخذت قرار ”نعم“ سوف أسامح وأصفح وأنه بشر يخطئ ويصيب، والشيطان وضعه في هذا الموضع، ومن تاب لله تاب الله عليه وتقبل توبته، فمن أنا لأعترض وأصوب طلقتي على شخص عاد نادماً من الذنب، وعاد كالصفحة البيضاء نقي نقاء الثلج، بل أن الله عز وجل قبل توبته، وفتح له باب التوبة، وأنا العبد الضعيف أقف أمام حكم الله، لأمنع أو أتجاهل أو لا أقبل به؟

هذا للأسف الشديد ما يعانيه بعض أرباب السوابق في مجتمعنا، وبعض قضاياهم للأسف الشديد قضايا كانت في وقت شباب وتهور وطيش ولربما مراهقة، ودفعوا ضريبة هذا التهور من أعمارهم، بالسجن والعقوبة، وخسروا الكثير مقابل تلك الجريمة التي كانت في الماضي ولا زالت تطاردهم في الحاضر والمستقبل.