جاراتنا الحنونات قد رحلن
منذ الطفولةِ عرفتُ البَحر
بلاداً كنورسٍ نُحبه
وبدا لي اسمها
عنوان عشق دائم
دليلي إلى ذلك كان أمي
سكنته حُضناً برداءها طوال الوقتِ، ورثتُ منها حُب الجار للجار
وورثتُ من مولديَّ الرحم البَحر ابتسامة الحياة، هي قلعة بلا أسوارٍ لساكنيها
هي تعابير مليئة بغُصة الفقد، لا تقيس حجم المحبة والعشرة المديدة والعلاقة الوطيدة التي تربط أهالي حي البحر في القطيف، ولا يُعبر عن جلالة خُلق وأمانة أهلها، ولا يصف المعنى عطاءات وكرم رجالاتها الكرماء ولا نسائها الأجوديات.
إن هذا الحب قد تجده في كل أوقاتها، ولكنه يشتد حرارة كلما اقترب من أحد ساكنيها الموت الذي من عادته أن ينتقي الجواهر النقيّة النادرة التي يُصعب أن تجد لها مثيل.
خلال العام الحالي 1445 هـ والماضي 1444 هـ وخلال عِشرة أكثر من 45 عامًا، فقدنا الكثير من حنان جِيرة المحبة والعشق الحُسيني الذي تَنهلُ بها "عزياتنا الخنينة”والتعلّق الذي لا ينتهي ويضعنا أمام أسرة مصغرة للمجتمع المترابط الذي يرى في خدمة الإمام الحسين غطاءه الاجتماعي المُكلل بالخير والسمعة الطيبة.
فرط عقد اللؤلؤ المنثور.. حينما فقد بحرنا ”جاراتنا الحنونات“ في فترة وجيزة رحلت أعز عزيزاته وابتسامته التي كانت تُضيء بيوتاته، رحلوا تواليًا وكأنهن ينادين من لم يلحقوا بهن، لم يعتادوا البُعد ولا فراق مجالس ذكرهم التي أفنوها خدمة وتضحية لأبي عبدالله الحسين .
خالاتنا الحنونات لا تفيهن كلمات الرثاء ولا الثناء، وتظل تعيش الذكريات معهن دون افتقاد، فكيف تنسى والدتنا المؤمنة أم نزار الخنيزي، المُلاية لولو حمّاد، الفاضلة أم سعيد الزاير، الجود أم علوي العوامي، العطوفة أم فؤاد قاو، الراثية أم فتحي الجشي، البسمة أم ماهر الغانم، الحنونة أم شوقي السنان، الطيبة أم سامي الجشي، الكريمة أم وليد القطري، الأصيلة أم محمد حسن نصرالله، العزيزة أم فيصل جمعة، الرحيمة أم أحمد الخنيزي، الصبورة أم فتحي الشماسي، العطاء أم عبد الرؤوف الشماسي، وغيرهن من الخالات الطيبات فكيف لنا أن ننسى حنانهن وما يحمله دسمال بحرنا من مآثر وخيراتٍ وبركات وكأننا نعيش أيام ”شهر رمضان“ تتنقلُ بين بيوتاتنا طوال العام.
جميع أهلها كرماء كالمطر، جروحهم عطايا، سفينة عزائهم طمأنينةً تصدحُ فيها المُلّاية الحسينية السيدة أم علوي السيد تاريخ بـ حسين يا حسين.
كلما عَددتُ أحدًا من لآلئ بحرنا التي تُحيط به الخيرات تأتي رجفةُ القلب وألم الحُب وتنهال دموع تُعيد الذكريات، وكأنما أيمنُ يظل يرثي أشواقنا حينما ودعّنا أستاذ بحرنا محمد الشماسي:
“أبي حنانك لا أرضى به بدلاً
حزني وحيداً إذا بُعثرتُ في طرقي”
وأظل أتسآئل لماذا تريد منا البحر أن نحبها فاقدين أحبتنا..؟! فكلما عُدت إلى البحرِ وبانت ملامح أرصفته العتيقة ملعب طفولتنا وشقاوتنا وصداقاتنا ومحبتنا.. يخف الثقل في صدري، لكني ما إن أتخيلُ أنني قد أفقدُ أحبةً حتى أختنق بها من جديد..