نحو وقف الحرب على غزة
بعد مرور أكثر من مئة وثلاثين يوماً على بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، والصمود الأسطوري لشعبها، أمام حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل، لا يلوح في الأفق حتى هذه اللحظة ما يشي بنهاية قريبة لها. على النقيض من ذلك، تهدد حكومة بنيامين نتنياهو باجتياح مدينة رفح، التي لا تتجاوز مساحتها ال 55 كيلومتراً مربعاً، والتي فرض عليها الاحتلال استقبال أكثر من مليون ونصف مليون مشرد من الفلسطينيين، الذين فُرض عليهم بالقوة مغادرة بيوتهم.
لم يحدث مطلقاً في تاريخ الحروب العربية المعاصرة، في الوطن العربي، وربما في الحروب العالمية، أن حشر عدد كبير من البشر، بحجم عدد النازحين عنوة إلى رفح، في بقعة صغيرة، تفتقر لمكونات العيش الكريم، وتعاني نقص الغذاء والدواء والمياه، ولا يوجد بها سوى عدد قليل من المستشفيات والعيادات الصحية، التي تعاني بشكل حاد نقص الإمدادات الطبية، وغياب الكهرباء، ونقص الطاقة.
ولا شك، أن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، في وضع كهذا، أن يتمكن الأطباء، والفرق الصحية الأخرى، من أداء مهامها، حتى ضمن الحدود الدنيا من الشروط لنجاح عملهم.
وبالتأكيد لم يكن لحكومة نتياهو مواصلة حرب الإبادة ضد شعب غزة، من دون ضوء أمريكي أخضر، ومساندة عسكرية أمريكية مفتوحة، حيث تقدر عدد الشحنات الجوية التي توجهت من أمريكا بأكثر من 230 شحنة، أخذت بالوصول إلى تل أبيب منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ولا تزال إدارة الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن تعد بالمزيد.
لقد بدا للعالم بأسره، أن الاهتمام الأمريكي، منصبٌّ حالياً، على استعادة الأسرى، أكثر منه على حياة المدنيين العزل. وللأسف فإن معظم حلفاء أمريكا في القارة الأوروبية قد أفصحوا عن مشاطرتهم للموقف الأمريكي. فوزيرة الخارجية الألمانية تعلن صراحة على الملأ، و«بالفم الملآن» كما يقال إن أمن إسرائيل أهم من حياة المدنيين الفلسطينيين.
التسويف في إطالة الحرب، تحت ذريعة القضاء على حماس، لن يتضرر منه سوى أهل غزة، الذين خسر كثير منهم منازلهم، وقتل عدد كبير منهم، تحت وطأة القصف الجوي، وبات الأحياء منهم عرضة للجوع والحرمان، والأمراض المعدية، وخسارة الأحبة. وليس من المنطقي أن يقف العالم متفرجاً أمام هذا الواقع. كما أنه من غير المقبول، وضع الرهائن، الذين تم أسرهم في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في كفة وجميع سكان غزة الذين ليست لهم علاقة البتة في ذلك الهجوم بالكفة الأخرى.
كما أنه ليس من المنطقي الاستمرار في الكلام الاستهلاكي، الذي يتردد عن أهمية قيام دولة فلسطينية مستقلة، في حدود الأراضي الفلسطينية، التي احتلت في حرب يونيو/ حزيران عام 1967. فمثل هذا الكلام، لا يوقف الحرب، ولا يوفر حماية للمدنيين، ولا يمنع هدم البيوت على رؤوس ساكنيها. وما يهم الفلسطينيين الآن هو وقف العدوان عليهم، وليس وعوداً وهمية بقيام دولة فلسطينية مستقلة، لا ترفضها فقط الحكومة الإسرائيلية اليمنية التي يقودها بنيامين نتنياهو والأطراف المتحالفة، معه، بل إن معظم مكونات المجتمع الإسرائيلي تجمع ترفضها.
لقد جاءت تصريحات نتنياهو الأخيرة، حول رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة، حتى ولو كانت منزوعة السلاح، لتحسم الأمر. فالدعوة لقيام هذه الدولة، من وجهة نظره، هي دعوة لتكرار ما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتمكين حماس من الوصول مجدداً إلى الحكم.
لقد سئم الفلسطينيون، والعرب جميعاً من الوعود الأمريكية الواهية، بحتمية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، والتي بدأ الحديث عنها مباشرة بعد معركة العبور في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، وكررها من قبل، الرؤساء: جيمي كارتر ورونالد ريغان، وجورج بوش، وبل كلينتون، وباراك أوباما، والرئيس الحالي جوزيف بايدن، وبات الحديث عها أشبه بالمثل «أسمع طحناً، ولا أرى خبزاً».
قيام الدولة الفلسطينية، هو مهمة وطنية وتاريخية، لن تكون منّة من قوة احتلال، ولن تفرضها الإدارات الأمريكية، التي كانت دائماً الحليف الأقوى للاحتلال، بل سيفرضها استمرار الكفاح الفلسطيني، بالضفة الغربية ومدينة القدس، وقطاع غزة. وهو كفاح ينبغي أن يكون مسنوداً من العرب جميعاً، حكومات وشعوباً. وحين يعجز الاحتلال، عن مواصلة مواجهة الشعب المحتل، سينسحب مجللاً بالخيبة والهزيمة.
ليس متوقعاً، من الحكومة الإسرائيلية اليمينية الراهنة بقيادة نتنياهو، والمسنودة بأكثر المتطرفين والعنصريين، والتي تعتبر اتفاق أوسلو بين حكومة إسحق رابين، ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، خطينة تاريخية، أن تقبل بقيام دولة فلسطينية مستقلة، أو تعترف بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، ومنها القراران 242 و388 اللذان يعتبران الضفة الغربية وقطاع غزة، ومدينة القدس أراضي محتلة بحكم القانون الدولي.
المطلوب الآن، بدلاً من الاستغراق في الأوهام حول قيام الدولة الفلسطينية، أن تتوقف حرب الإبادة على غزة، وأن يعاد للأطفال الفلسطينيين مجدداً البسمة، وأن يعاد إعمار المدينة، وأن يتركز الجهد العربي، على تحقيق سلام مستدام، يحمي أرواح الفلسطينيين ويصون ممتلكاتهم وكرامتهم، ويمكّنهم من حق تقرير المصير. والقيام بهذه المهمة، عمل قومي وإنساني وأخلاقي، وليس فرض كفاية.