آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

مذكرات أمل «5 و 6»

رضي منصور العسيف *

في أحد الأيام قلت لأمي: غدا اختبار مادة الفقه، وهذا سهل لقد انتهيت من المذاكرة، وسأقضي بقية الوقت في مشاهدة أفلام الكرتون.

قالت أمي لا بأس يمكنك أن تشاهدي ما يحلو لك.

ولكن في يوم الامتحان حدث ما لم أكن أتوقعه... استلمت ورقة الاختبار وإذا بي أقرأ أسئلة مادة الجغرافيا...

نظرت حولي لم أجد أي اعتراض من أي طالبة.. تيقنت أني أخطأت في الجدول... ناديت المعلمة أخبرتها بالخطأ الذي وقعت فيه.. نظرت لي وقالت لا يمكنني أن أفعل أي شيء.. عليك أن تجيبي على الأسئلة فقط..

قرأت الأسئلة، فوجدت إجابتها جاهزة في عقلي لأني سبق وأن راجعت مادة الجغرافيا منذ أسبوعين.. أجبت عن الأسئلة، وبقي سؤال تحيرت في الإجابة الدقيقة عنه..

بعد انتهاء الاختبار تحدثت مع معلمة المادة حول هذه المفاجأة.. ابتسمت وقالت لا تقلقي ستكون الأمور إلى خير...

بقيت قلقلة لليوم الثاني ذهبت إليها مرة أخرى سألتها: هل أنهيت تصحيح الاختبار؟!

أجابتني نعم، وسوف أعلن النتائج في الحصة القادمة.

بقيت قلقلة. ماذا سيكون موقفي إن حصلت على درجة متدنية؟!

جاءت المعلمة وقالت: سأوزع عليكن أوراق الاختبار....

كنت أنتظر ورقتي بفارغ الصبر..

انتهت المعلمة من توزيع جميع الأوراق وبقيت أنا أنتظر... أنتظر.

المعلمة تنظر إليّ وهي تبتسم.. ثم قالت هذه ورقة أمل... الدرجة كاملة...

دمعت عيني من الفرحة...

انتهت الاختبارات والحمد لله حصلت على تقدير ممتاز...

قررنا أن نذهب للرياض لمراجعة جمعية المعاقين ولقضاء يومين إجازة..

خرجنا عصر يوم الأربعاء

كان أخي خالد يقول بعد أن ننهي موعد أمل سآخذكم جولة في شوارع الرياض وسنزور حديقة الحيوان مع بعض المجمعات.

كنت مع أمي وأخي خالد وأختي الصغيرة «زجل»

قطعنا مسافة ساعتين ونصف

توقفنا في إحدى المحطات لشراء ماء وبعض العصيرات والفطائر..

استأنفنا الرحلة وبدأ المطر يتساقط.. بدأ يزداد ويزداد.

قالت أمي عليك أن تتوقف يا ولدي المطر غزير والقيادة في هذه الأجواء خطيرة..

أجابها أخي: سأتوقف في أقرب محطة لم يبق أمامنا سوى ساعة، سيتوقف المطر إن شاء الله..

استمر أخي في القيادة والمطر لم يتوقف، الظلام دامس والمطر غزير..

كنا في صمت ننظر أمامنا....

لا نعلم كيف خرجت أمامنا شاحنة لتصطدم بنا...

كان الحادث في جهة أمي...

صرخت أمي يا الله

صرخت أنا أيضا يا الله

السيارة تتقلب بنا ونحن نصرخ....

ولأننا لم نكن قد ربطنا حزام الأمان فإن كل واحد منا ارتمى خارج السيارة ولا أعلم بعدها ماذا حدث...

تم نقلنا لأحد مستشفيات مدينة الرياض... أصبت وأختي برضوض.. فيما بقي أخي خالد سالماً ولله الحمد

وبعد معرفة الأطباء بحالتي الصحية تم عمل أشعة على الرأس للتأكد من سلامة الشنط، والحمد لله كانت النتيجة سليمة...

حضر أبي للمستشفى وهو في حالة ذهول مما رآه في السيارة.. لقد كانت محطمة ومن يراها فإنه يقول رحم الله من كان فيها...

دخل أبي غرفتي... فصرخت أبي... أبي وبدأت بالبكاء

مسح على رأسي وقال الحمد لله على سلامتكم

سألته عن حالة أمي..

سكت قليلا...

ثم قال أمك في العناية المركزة..

صرخت أمي حبيبتي...

خذني إليها..

قال غدا سآخذك إليها. اهدئي الآن.

فقلت لا يمكنني الانتظار ليوم غد..

ذهبت مع أبي وأخي وأختي لرؤية أمي... وجدتها في حالة غيبوبة.. أصيبت بعدة كسور منها كسر في الحوض ورضوض متفرقة.

كنت جالسة على الكرسي... أردت أن أرتمي عليها ولكني لم أستطع ضربت الكرسي بيدي وقلت تبا لك... تبا لك.. أمي سامحيني أريد أن أحضنك.. ولكن... وبدأت بالبكاء..

قال أبي اهدئي يا ابنتي... اهدئي

مضى أسبوع وفي كل يوم كنا نذهب لرؤية أمي ونحن نتفاءل أن نراها قد أفاقت من غيبوبتها، ولكن لا فائدة.

جاءت عماتي وخالاتي للاطمئنان على حالتنا... ذهبوا للعناية المركزة، وما هي إلا لحظات حتى خرجن وهن يبكين... وكل واحدة منهن تقول رحمك الله يا أم خالد...

صرخت وقلت ماذا تقولون هل ماتت أمي....

قالت خالتي.. لا ولكن حالتها صعبة للغاية...

قالت عمتي نسأل الله لها الشفاء العاجل ولكن...

صرخت وقلت: ولكن أمي ستعيش لن تموت... لن تموت...

«6»

مرت الأيام ونحن في حزن شديد...

كنت جالسة على الكرسي بجانب أمي وأنا أذرف الدموع، قلت أمي لقد خسرت كل شي، لقد تحطم جهاز المشي... هذا لا يهمني.. أريدك أنت فقط.. أنت من يهمني..

هيا استيقظي لتمشطي شعري...

هيا استيقظي هيا لا أريد أن أخسرك...

خرجتُ من المستشفى بعد أن تحسنت صحتي أي بعد شهر...

في أحد الأيام جاء أبي وأحضر معه حقيبتي الدراسية ومعها مجموعة رسائل... وقال: هذه الرسائل من معلماتك وزميلاتك...

فرحت بها كثيراً... صرت أقرأ الرسائل وأنا في غاية الفرح فالجميع كتب لي ”الحمد لله على السلامة وإن شاء تعودين إلينا في القريب العاجل...“ حتى وصلت إلى رسالة فتحتها وصرت أقرأ الكلمات شعرت أنها كتبت من أعماق القلب... ”في كل ليلة أصلي لربي وأدعو لكم بالشفاء العاجل، أحزنني وضع والدتك ولكن كوني على يقين أنها ستشفى بإذن الله، لن أنساها من الدعاء في كل صلواتي...“ التوقيع أم عبدالله...

بكيت عندما قرأت هذه الكلمات... ثم ناديت أبي وقلت أريد أن أذهب لزيارة أمي... أشعر أن هناك خبراً ساراً سيفاجئنا...

سألني وكيف عرفتي ذلك...

قلت: هذه الرسالة من الخالة أم عبدالله التي تعمل معنا في المدرسة...

قرأ أبي الرسالة... وتساقطت دموعه...

ذهبنا للمستشفى برفقة أخوتي... ولكن لم يتغير حال والدتي...

طلبت من أبي أن أبقى في الرياض في بيت عمي،

وافق على طلبي وتم نقلي لإحداى مدارس الرياض، حاولت التكيف مع الطالبات ولكن تفكيري كان مشغولاً بوالدتي...

كنا نذهب لزيارتها يومياً،

في الإجازة الأسبوعية يحضر والدي وأخوتي ونبقى بجانب والدتي ندعو لها بالشفاء العاجل...

ها قد حل علينا شهر رمضان المبارك... ولا تزال والدتي في العناية المركزة... كنت أردد هذا المقطع: ”اَللّهُمَّ اشْفِ كُلَّ مَريض، اَللّهُمَّ غَيِّر سُوءَ حالِنا بِحُسْنِ حالِكَ“...

أحضر أبي ملابس العيد.. ولكن الفرحة لا تكتمل إلا بخروج أمي من المستشفى... لذلك لم يكن العيد مبهجاً...

ومضت الأيام ونحن بين اليأس والرجاء

في إحدى الإجازات أحضر أبي رسالة كتب عليها إلى ابنتنا أمل... سألته ممن؟! فأجابني: لقد اتصلت بي مديرة المدرسة وقالت إن هناك رسالة من أم عبدالله.

فرحت بها كثيرا وأسرعت لأفتحها...

وجدت قصاصة صغيرة كتب عليها عبارة بكلمتين «الفرج قريب»... التوقيع أم عبدالله.

دمعت عيناي...

أعطيت القصاصة لوالدي الذي ردد العبارة: الفرج قريب...

ثم قال العبارة صغيرة ولكنها مليئة بالأمل.. بل هناك يقين بالأمل...

بقيت أمي في العناية المركزة مغماً عليها لمدة سبعة شهور،

حتى جاء يوم الفرج...

جاء أبي في وسط الأسبوع يوم الاثنين... تعجبنا من مجيئه وكان معه أخوتي خالد وسالم... كانت علامات الحيرة بادية على ملامحهم...

قالوا علينا أن نذهب للمستشفى...

قلت: ماذا جرى لأمي.... هل...

قال أبي: علينا أن نذهب... لقد اتصل بي الطبيب وبشرني....

قلت: أمس كنت معها ولم يتغير شيء...

قال أبي علينا أن نذهب...

وصلنا المستشفى ودقات قلبي تزداد في كل لحظة نقترب من العناية المركزة... فتحنا الباب واتجهنا ناحية سريرها...

بقيت في الخلف...

أغمضت عيني لا أريد أن أرى هذا المنظر...

وإذا بي أسمع صوت أخوتي الحمد لله على سلامتك يا أمي...

فتحت عيني... وإذا بي أرى أمي تحرك يدها وكأنها تقول تعالي يا أمل هيا اقتربي...

سالت دموعي وأنا أدفع الكرسي... والعبرة تخنقني... الحمد... لل.. هـ على.. سلا.. مت.. ك... يا أمي....

اقتربت منها وقلبي يردد

أحبك يا أمي يا أحلى إنسان

أمي يا أغلى نداء

أمي العطاء

أمي الأمان

أمي الحنان

أمي يا صوت الإيمان

أحبك يا أمي

همسة أمل

”لا تيأس مهما اشتدت الأزمة وتكالبت عليك الظروف.. اصبر فهناك أمل دائما، وهناك ضوء آخر النفق“ ”الأمل لا بد من وجوده في كل الظروف القاسية، مهما بلغت الظروف من شدة وقسوة، يزهر عنها شيء ما“.

للقصة بقية

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف