آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:58 م

روجيه غارودي.. ومسألة الغرب والإسلام

الشيخ زكي الميلاد * المجلة العربية

قدم المفكر الفرنسي روجيه غارودي «1913 - 2012 م» رؤية تحقيقية مهمة حول علاقة أوروبا والغرب بالإسلام، تشكلت لديه هذه الرؤية في طورين، الطور الأول كان ناظرا فيه إلى الماضي، والطور الثاني كان ناظرا فيه إلى المستقبل.

في الطور الأول، توقف غارودي عند علاقة الإسلام بالتاريخ الأوروبي وتطوره الحديث، ناظرا إليه من جهتين، الأولى تتعلق بعامل المكان والزمان، فقد اعتقد غارودي جازما أن نهضة أوروبا الحديثة لم تبدأ في إيطاليا في القرن السادس عشر الميلادي، وإنما بدأت في إسبانيا في القرن الثالث عشر. والجهة الثانية تتعلق بعامل التراث والثقافة، إذ خطّأ غارودي اعتقاد الغربيين بأن حضارة الغرب هي نتاج إرث مزدوج يهودي ومسيحي من جهة، يوناني وروماني من جهة ثانية، والتعمد في تجاهل ما يسميه غارودي التراث الثالث، ويعني به التراث العربي الإسلامي.

هذه الرؤية التاريخية تكونت لدى غارودي قبل إسلامه، وكان شديد الثقة بها، وظل يدافع عنها بلا توقف، وقد خصص كتابا مستفيضا لشرحها والبرهنة عليها، كتاب يتجلى في عنوانه: «الإسلام في الغرب.. قرطبة عاصمة الروح والفكر»، بسط فيه الحديث، مؤكدا بالوقائع والحقائق والشواهد الفكرية والفلسفية والأدبية والعمرانية والتاريخية أن نهضة أوروبا بدأت في إسبانيا بفضل انتشار وتأثير الجامعة الإسلامية في قرطبة وإشعاعها الثقافي، نافيا خرافة الغزو العربي الإسلامي لإسبانيا، مستندا في موقفه إلى كتابات مؤرخين إسبان كبار، منهم الكاتب والروائي بلاسكو ايبانيز «1867 - 1928 م»، ناقلا شهادته التي أوضح فيها أن الانبعاث في إسبانيا لم يأت من الشمال مع القبائل البربرية، بل جاء من الجنوب برفقة العرب الفاتحين، الذين كانت حملتهم حملة ممدنة أكثر من كونها غزوا.

وقد وجد غارودي في هذه النهضة، وعدا مشرقا في إسبانيا القرن الثالث عشر، ورأى فيها اتجاها معاكسا لنهضة القرن السادس عشر في إيطاليا، ونهضة القرن السابع عشر في إنجلترا، ونهضة القرن الثامن عشر في فرنسا، ونهضات القرنين الآخرين في الغرب. داعيا لإحياء هذه النهضة المشرقة، متوسما فيها أن تقدم جوابا أو حلا للمشكلات الكبرى لعصرنا، ومكافحة المرضين المميتين وهما: مرض نزعة الوضعية التي فصلت العلم والتقنيات عن الحكمة والإيمان، ومرض نزعة الفردية التي قادت إلى توازنات الرعب، متأملا أن تعطي قرطبة للعالم ثانية رسالة عصورها الذهبية.

من جانب آخر، رأى غارودي أن من أكبر الأخطاء في كتب التاريخ الغربية، تجاهل الإرث الإسلامي الثالث، والحط من قيمته الفكرية والتاريخية بشكل متعمد، حدث ذلك أولا: حين اعتبر هذا التراث عند الغربيين على أنه مجرد عامل بسيط ناقل لثقافات وأديان قديمة، أو مجرد مترجم ومعلق على الفكر اليوناني. وثانيا حين صُور هذا التراث على أنه مجرد فترة تاريخية سابقة للثقافة الغربية، وانحصرت دراسته في نطاق المهتمين بالتاريخ القديم. ومن ثم فإن الإسلام لا يمكن أن يأتي بجديد، ولا يحتوي على أي مضمون حيوي.

والرأي عند غارودي، أن هذا الاتجاه المزدوج ينبغي محاربته، واصفا إياه بالاتجاه الخطير، كونه يمنع من فهم الحاضر وبناء المستقبل، معتقدا أن التراث الإسلامي الثالث كان قادرا على مصالحة الغرب مع فلسفات العالم المختلفة، وبإمكانه أن يأخذ بيده ليدرك الأبعاد الإنسانية والإلهية التي انشطر عنها الغرب خلال تطوير قدراته للسيطرة على الطبيعة والناس.

وفي الطور الثاني، اتجه غارودي من النظر إلى الإسلام بوصفه تاريخا في الغرب، إلى النظر إليه بوصفه يحمل وعودا لمستقبل الغرب، متمما به رؤيته التحقيقية، شارحا لها في كتاب مستفيض كذلك، صدر في مطلع ثمانينات القرن العشرين، موسوما بعنوان: «وعود الإسلام»، عائدا فيه إلى الماضي، ناقدا تلك التصورات المتوارثة والمجحفة التي أعاقت اقتراب الغرب من الإسلام، ومنتقلا إلى الحاضر متلمسا الاقتراب من الإسلام، داعيا إلى الحوار معه، كاشفا عما يمكن أن يقدمه، وما الذي يجب على الغرب تعلمه منه؟ مبينا إنجازات الحضارة الإسلامية في ميادين العلوم المختلفة مثل: الرياضيات والطب والفلك والجغرافيا والكيمياء وعلم الاجتماع، مصورا أن هذه العلوم كلها إنما نمت وترعرعت في جو من الإيمان الديني.

لا شك في أهمية هذه الرؤية المميزة والمنصفة، وتكمن أهميتها في أنها جاءت من مفكر في طراز غارودي الذي عرف بحسه النقدي، ومعرفته الواسعة، وانفتاحه الثقافي، وتحرره الأيديولوجي، بدأ أيديولوجيًا وكان من أقطاب الفكر الماركسي في فرنسا، ثم تحرر من قيود هذه الأيديولوجيات، منفتحا على الثقافات غير الأوروبية، باحثا عن الأبعاد المفقودة في الثقافة الأوروبية.

ومن جهة ثانية، تكمن أهمية هذه الرؤية في ناحية مستوى الجهد التحقيقي الكبير الذي بذله غارودي في تكوينها والتأسيس لها، مستندا إلى وقائع وحقائق فكرية وتاريخية جمة ومهمة، ولم تكن مجرد رؤية عادية أو عابرة لا وزن لها ولا اعتبار.

ومن جهة ثالثة، تكمن أهمية هذه الرؤية في كونها قادت غارودي إلى عالم الإسلام، فكان شاهدا على رؤيته ومصدقا، أراد منها في البداية دفع الغرب إلى الاقتراب من الإسلام والانفتاح على أبعاده الفلسفية والروحية، وتصحيح تصوراته التاريخية المتوارثة والملتبسة، فأصبح شاهدا بنفسه على تصديق هذه الرؤية، مقتربا من الإسلام في طور، ومعتنقا له في طور آخر، فعد من أولى ثمرات هذه الرؤية.

ومن جهة رابعة، تتأكد أهمية هذه الرؤية في ضرورة الاستناد إليها لتكوين رؤية ناضجة حول العلاقة بين الإسلام والغرب قوامها الفهم والمعرفة. فنحن بحاجة ماسة إلى خبرة هؤلاء المفكرين الغربيين المسلمين، وتحري معرفتهم في بناء رؤيتنا حول الغرب، وتجديد هذه الرؤية وتعميقها، وعلينا أن نعد هؤلاء المفكرين أهل خبرة ومعرفة في موضوع مجالهم الغربي، ونتعامل معهم بهذه الصفة المرجعية، سعيا لبناء رؤية جديدة تكون ناضجة ومعمقة، تتجاوز إشكاليات الرؤية السائدة وما فيها من ضعف معرفي لم تمكِّن المسلمين من الاستفادة القصوى من كنوز الغرب العلمية، وخبراته الحضارية العظيمة.

فلا يكفي في هذه الرؤية، الاكتفاء بالموقف السلبي الداعي إلى التحصن من الغرب وآفاته وأمراضه الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، بل لا بد من الموقف الإيجابي أيضا، فالمعرفة التي أنجزها الغرب تمثل أعظم معرفة حدثت في تاريخ الاجتماع الإنساني، وعلينا بذل الجهد لتحصيلها والاستفادة منها، أملا في بناء مدنية إسلامية جديدة.

، شهرية ثقافية، رجب 1445هـ/ فبراير 2024م، العدد 569
كاتب وباحث سعودي «القطيف»