آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 4:16 م

لقاء في سيارة الأجرة

جلال عبد الناصر *

دسّت يدها الناعمة داخل حقيبتها المزخرفة بآلهة الحب. يبدو أنها ما زالت مؤمنة أنّ ”عشتار“ سوف تغمر حياتها بالسعادة الأبدية. قبضت على هاتفها المتهالك وألقت نظرة حزينة على سيارتها التي أبت أن تتحرك أو تستجيب لها.

لقد توقعت من زوجها أن يغيّر طريقه، ويترك أصدقاءه ويأتي مسرعًا، إلّا أنه أخبرها أنّ المباراة بدأت للتَّو. واقترح عليها أن تطلب سيارة أجرة عن طريق التطبيق. وما إن انتهت من طلب سيارة الأجرة، حتى راحت تتأمل في الوشم الجديد على رسغها. ثم لمحت سيارة تقف قبالة المقهى. فعرفت على الفور أنّ السائق قد وصل. ولكن أيَّ سائق هذا الذي وصل.

إنها لحظة أعدّها القدر. وكأنّ هناك من منع مُحرّك سيارتها عن العمل. حينها خرجت مسرعة نحو سيارة الأجرة. وبمجرد أن فتحت الباب وجلست خلف مقعد السائق، هاج بها الحنين الذي خمد منذ سنين. فحاسّة شمّها تعرّفت على رائحة العطر المنتشرة في تلك السيارة. حاولت تجاهل حنينها ومنع ذكرياتها الجميلة من العودة، إلّا أنّ رنين الهاتف جاء من الأمام يعزف موسيقى ”بيتهوفن“.

لقد انطلقت تلك النغمات كسهم ملتهب مصوّب نحو قلبها. فتذكرت حبيبها عندما كان يعزف تلك المقطوعة في ليالي الشتاء الباردة. حاولت أن ترفع رأسها لتشاهد ذلك السائق، لعلّ القدر أحضره لها في لحظة هي بأمسّ الحاجة إليه. وتمنّت أن يجيب على هاتفه وتسمع صوته، فربما يكون هو بالفعل.

لقد كانت رحلة قصيرة لم تتجاوز خمس عشرة دقيقة إلّا أنها كانت قاسية. لقد أعادتها لأجمل لحظات العمر. فهناك من كان يعشقها، وهناك من كان يضحي لأجلها. لقد تعلّمت منه أنّ الحب لا يكتمل إلّا بالوفاء، وأنّ الإخلاص جانب فطري وغير مكتسب، والأمانة ليست مجرّد كلمة مرتبطة بالزمان والمكان. ثم تذكرت اللقاء الأخير في شقته حين أخبرها أنّ رحيلها سيحطّم قلبه، ثم رمى الكوب على الأرض ليتناثر في كلّ مكان.

وفي نفس الليلة أخبرها أنّ شيئًا سوف يحدث، فقد شمّ رائحة لقبلات الوداع، فشعرت بالحنين لتلك اللحظات التي كانت تجد ذاتها فيها والأسى على ما عليه الآن. فزوجها مجرّد رجل لا يهتم إلّا بمعدته وأشياء أخرى، وبارد كما موسم الشتاء.

فجأة شعرت أنّ السيارة توقفت وسمعته يقول: تفضّلي... لقد وصلنا. حينها لم تتماسك نفسها فراحت تعضّ على شفتيها بأسنانها وعيناها تعتصر. فشعرت أنّ صوته يجذب كلتا يديها نحوه. وكأنه يريد منها أن تمررهما من خلف المقعد وتعانقه كما كانت تعانقه في صبيحة كلّ يوم. وما إن لامست يداها أطراف المقعد حتى تجمّدت وأجهشت بالبكاء، ولكن لا حراك، فالسائق لم يهمس بشيء. فامتدّت يدها نحو مقبض الباب وفتحته بهدوء ورفعت رجلها اليسرى لتخرجها من السيارة رغمًا عنها. وما إن وضعتها على الأرض حتى تجمّدت وكأنها ترفض الخروج. وفجأة وجدت نفسها تقف في الشارع منهارة ووحيدة، وإذا برسالة نصية تظهر على جوالها يقول مرسلها: اخلدي للنوم، سأوقظك حال وصولي.

اختصاصي نفسي في مجمع إرادة للصحة النفسية بالدمام