آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:35 م

فردانيّة اللُّغة واستقلاليتها

الدكتور أحمد فتح الله *

اللُّغة عند أشهر عالم لُغويّ معاصر - نعوم تشومسكي - شيئٌ خاصٌ جدًّا لدرجة أنّه يراها ”معجزة“. والجدير بالذكر أنّه لا يساويها ب“الكلام”أو“التواصل”، بل هي“آليّة معرفيّة حسابيّة محددة بيولوجيًّا تنتج مجموعة غير محدودة من التعبيرات المنظمة هرميًّا”. ويضيف التشومسكيون أن“نتائج دراسات تصوير الدماغ الحديثة تتوافق مع وجهة النظر هذه للُّغة باعتبارها آلية معرفية مستقلة، مما يؤدي إلى رؤية تنظيمها العصبي، حيث تتضمن اللُّغة تفاعلات ديناميكية للجوانب النحوية والدلالية المتمثلة في الشبكات العصبية التي تربط القشرة الجبهية السفلية والصدغية العلوية وظيفيًّا وبنيويًّا.

ومن اللافت بقوة للانتباه عدم اهتمام تشومسكي بأي محاولة لشرح كيفية ظهور اللُّغة بمصطلحات تطورية أو عن طريق ربطها بأنظمة التواصل عند الحيوانات باعتبارها مقدمة محتملة لها في مرحلة ما سابقة. ويبدو من بعض أقواله أن اللُّغة يجب أن تكون قد ظهرت إلى الوجود كنوع من“الطفرة العشوائية”.

إضافة إلى هذه الرؤية حول طبيعة اللُّغة ونشأتها، يرى تشومسكي أن اللُّغة تمتاز بخصائص معيّنة، منها:

1- الاستقلاليّة

من الأمور الأساسية في نظرية تشومسكي أيضًا هو جزمه، إلى درجة العقيدة، بأن اللُّغة يجب أن تُفهم على أنها مستقلة عن العناصر الأخرى للقدرة أو النشاط البشري. هناك العديد من الأدلة والقرائن المؤيدة لاستقلال اللُّغة، والتي يعتقد تشومسكي وتلاميذه أنها توفر أساسًا قويًّا لفهم اللُّغة دون الرجوع إلى الوظائف المعرفيّة الأخرى، أو على الأقل، ككفاءة، هي وظيفة خاصة من بين هذه الوظائف.

من قرائن استقلاليّة اللغة الطبيعة الفريدة للمعرفة اللُّغويّة، يتصور تشومسكي اللُّغة بأنها تحتوي على بعض المبادئ الثابتة التي تسود جميع اللغات. لا تنطبق هذه المبادئ بالضرورة على جميع جوانب التفكير البشري؛ وليس من الواضح كيف يمكن لهذه المبادئ أو ما تعرف ب“القواعد الكونيّة”«Universal Grammar» أن تعمل في مناطق أخرى من العقل غير اللُّغة. إضافة إلى أنّ ثَمة درجة من التعزيز المتبادل بين القرائن المؤيدة لاستقلال اللُّغة وتلك التي تشير إلى وجود بعض عناصر اللُّغة الفطريّة أو الجوهريّة للبشر.

2- الفرادة «تفرد البشر بها»

فرادة اللُّغة تعني تميزها عن باقي أنظمة التواصل بين الكائنات وتفضيلها عليها بسمات وخصائص ذاتيّة بنيويّة في اللُّغة نفسها إضافة إلى قدرات الإنسان العقلية والإدراكية. يرى تشومسكي أن اللغة ميزة إنسانية «Uniquely Human»، أي ملكة يختص بها البشر دون غيرهم من الكائنات الحيّة. لكن، المخالفون لفرضيّة التفرد البشري للُّغة يؤكّدون أنهّ بعد مراقبة الحيوانات تبيّن أنّها، وإن في سياقات معمليّة معينة، كانت قادرة على تعلّم أنظمة اتصال أكثر تعقيدًا مما هي عليه في“بيئتها”«الطبيعيّة»، ممّا يوحي أن هذا التواصل أو هذه الأنظمة تشكل إمَّا لغات أو مقدمات حقيقية لِلُّغة.

لكن يرد تشومسكي بشكل عام بالسؤال عما إذا كانت اللُّغات المستخدمة في هذه التجارب شبيهة تمامًا بالإنسان حسب“المبنى التشومسكي”لِلُّغة البشرية في كلِّ مكان. لذلك، قد يكون من الممكن تعلّمها عبر كليّات أخرى غير اللُّغة الموجودة تحت تصرف الحيوان. حتى في حالة الإنسان، قد تكون بعض جوانب اللُّغة قابلة للتعلم أيضًا عبر بعض الوسائل الأخرى غير“ملكة اللُّغة”.

3- الإبداعيّة والإنتاجيّة

إذا كانت اللغة هي الخاصية التي يتفرد بها البشر دون غيرهم من الكائنات فإن الإبداعيّة «Creativity» والإنتاجيّة «Productivity» تجعل من اللّغة الإنسانيّة متميزة أكثر عن نسق الاتصالات الحيوانية. يستعمل البشر، حسب تشومسكي، في أحاديثهم اليوميّة كلمات وألفاظ كثيرة ومتنوعة، من دون وعي منهم أنهم ينتجون عددا لا حصر له من الجمل والعبارات الجديدة والأصيلة، ما يدلّ بطريقة ما على أنّ اللُّغة الإنسانيّة تتسم بنوع من الطاقة اللا - محدودة والمنتجة التي تسمح بالابتكار المتجدد والمستمر والإبداع اللا - نهائي للجمل، والتراكيب اللُّغوية، وهو أمرٌ تختص به اللُّغة الإنسانية.

فاستعمال اللُّغة أساسًا هو“عمل إبداعي”، وقد زاد هذه النظرة عُمقا ارتباطها بالرؤيّة الفلسفية بأنّ الإنسان يختلف عن الحيوان في أنّ له عقلا، وأنّ أهم خصائص هذا العقل هو إنتاج اللغة «ديكارت»، فباعتبار اللُّغة وسيلة إبداع يستطيع الإنسان بواسطتها خلق ما لا حصر له من الجمل والمفردات رغم محدوديتهما، وهذا يتوافق مع رؤيّة فيلهلم همبولدت «اللُّغويّة» بأنّ اللغة نظام من القواعد التوليديّة، وطاقة إنتاجية، حيث أنها «اللُّغة» في جوهرها“عملية خلق”تُمكّن المتكلمين من إنتاج ما لا حدود له من المنطوقات والعبارات بوسائل محدودة.

إنّ الخاصية الإبداعيّة، إذًا، كما تستخلص خديجة مانع «2020 م»،“تبرهن على تفرد العقل الإنساني أولًا، وتُظهر كفاءة المتكلم، ولذلك فالإبداعية هي تمظهر واضح للكفاءة اللغوية التي يمتلكها الإنسان وهي تعبير عن حرية الإرادة الإنسانية وتميز الإنسان داخل المنظومة الكونية التي يحيا فيها، حسب تشومسكي، أي يمكن للّغة أن تمدنا بدعامة هامة في فهم السلوك البشري والبحث في مشاكل الطبيعة البشريّة”.

4-“اللا - نهائيَّة”

في تناوله الخصائص الأساسية للُّغة، يفرّق تشومسكي بين نظامين للُّغة: «I-Language» اختصارًا إلى «Internal Language»، اللغة الداخلية، و«E-Language» اختصارًا إلى «External Language»، اللغة الخارجية [8] ، وما يهمنا هنا هو أنّه في حديثه عن نظام“لغة -I”، يقول: هناك خاصيتان نعتبرهما غير قابلتين للنقاش، ويجب على كلّ نظريّة تريد أن تفسر سمات القدرة اللُّغويّة البشريّة أن تفترضهما:

«أ» اللا - نهائية المتميزة «Discrete Infinity»

«ب» النقل «الإزاحة» «Displacement»

 عن طريق الخاصية الأولى يمكن دمج الوحدات المعجمية «الكلمات» لإنشاء كائنات نحويّة «جُمل، وعبارات» ذات طول غير محدود، وذلك عن طريق التطبيق المتكرر للإجراء العَوْدي «recursion»، أو قابلية تكرار القاعدة «اللُّغويّة»؛ وهما من القواعد الكليّة التي تفسر إنتاجية اللُّغة التي نلاحظها، كما في:

مريم أكلت التفاحة…

إنك تعتقد أن مريم أكلت التفاحة…

قال أخوك أنك تعتقد أن مريم أكلت التفاحة…

قال أخوك حين سألناه أنك تعتقد أن مريم أكلت التفاحة…

قال أخوك حين سألناه أنك تعتقد أن مريم أكلت التفاحة التي كانت في الثلاجة.

وهكذا…

تأخذنا خاصيّة“اللا - نهائيّة المتميزة”إلى الملاحظة التقليدية المتمثلة في أنه «لا توجد جملة أطول»، تمامًا مثل لا يوجد «عدد أكبر» في الرياضيّات. وصف غاليليو، كما يذكر تشومسكي في عدة أماكن، هذه الخاصيّة معترفًا بأن اللغة تسمح بإيصال“أفكار الشخص الأكثر سريّة إلى أي شخص آخر - دون أي صعوبة - أكبر من التجميعات المختلفة لأربعة وعشرين حرفًا صغيرًا على الورق”، وهذا“أعظم الاختراعات البشريّة”، حسب وصفه.

ولكن كيف يتم اكتسابها «تعلمها» يبقى السؤال الأهم، وهل ”غموض“ عمليّة التعلم مشكلة أم ميزة؟ هذا ما نستعرضه في المقال القادم.

يتبع…

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
Mohammad Al-Issa
[ Saudi Arabia ]: 29 / 1 / 2024م - 7:23 م
مقال عظيم يوضّح اللغة وميزاتها كما يراها تشومسكي، ولا شك أن اللغة لغز محيّر جداً، فطالما تساءلت لماذا صادف أن كل اللغات على اختلافها تشترك في أن فيها أسماء وأفعال وأسماء موصولة. إذاً لا بد أن هذه الصفات المشتركة في جميع اللغات ناتجة عن صفات مشتركة في عقل الإنسان وطريقة الفهم والإدراك.

هذا المقال الجميل يجيب بعمق عن هذه التساؤلات التي طالما حيّرتني.

مقولات أرسطو ثم مقولات كانط قد تلقي الضوء على الطريقة التي يدرك العقل بها الأشياء، فالمقولات هي تصنيف لأنواع الارتباط بين الموضوعات والمحمولات، وكأن العقل يفهم الموضوع أولاً ثم يفهم المحمول ثانياً ثم يفهم نوع الرابطة بين الموضوع ومحموله فتنتج عن ذلك تصور و معرفة.
تاروت - القطيف