آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

الشتات الأسري

اللحمة الأسرية يحوطها الإحساس بالانتماء لذلك الكيان المتماسك والمستقر، ومن ثم فإن الوضع الطبيعي أن يجتمع الإخوة على مائدة المحبة والثقة والمشاركة الوجدانية مع هموم وتطلعات الفرد الآخر، فلا نبالغ إن قلنا بالشعور بالفرح لتحقيق أحدهم نجاحا أو إنجازا فيشعر بأنه كنفسه، وفي المقابل فإن الألم النفسي والعاطفي الذي يعاني منه أحدهم يسري وينتشر في نفوس البقية، فنسمع عن قصص الإيثار والتضحية عند أحدهم تجاه بقية أفراد أسرته ويعمل جاهدا على توفير مستلزمات الحياة الكريمة لهم، ويقتطع من وقته وجهده الشيء الكثير في سبيل تخفيف وطأة الهموم والضغوط الحياتية والمشاكل التي تواجه أحدهم.

ولكننا نجد اليوم الواقع المرير المتصف بالقطيعة والهجران وانتشار الخصومات كانتشار النار في الهشيم، ولعل هذا الأمر ليس بحاجة لسرد التفاصيل المتعلقة بقصص تحمل الأسى والألم لما وصل إليه الحال، من اعتبار الأخوة والمشاعر العاطفية بينهم من تراث الماضي ولا تتناسب مع الواقع المعاصر، فما هو مهم اليوم هو تركيز الفرد على احتياجاته وتطلعاته وآماله دون إهدار الكثير من الجهد والوقت في القضايا الأسرية والمشاكل الناجمة بين الإخوة، فمن العبث - بنظره - تشتيت الجهود وتضييع الأوقات في ترميم تلك العلاقات والتي لا يمكن تغيير واقعها الصعب، فليس هناك من شيء - وللأسف - يستحق كل هذا الاهتمام بالعلاقات الأخوية والبحث عن سبل تنميتها، فمستقبله الدراسي والمهني ونطاق أسرته الصغيرة أولى بصب الجهود لازدهارها وتقدمها.

أحد أهم العوامل المؤثرة في حدوث شرخ في علاقات الإخوة هو التربية الخاطئة، والتي أهمل فيها الوالدان زرع سلوكيات التعاون والثقة والمشاركة بين أولادهم، فما كان يتم التركيز عليه من قبلهما هو الاهتمام بالمستوى الدراسي لكل واحد منهم وكأنه عالم مستقل لوحده، وغابت عن روحهم التربوية إيجاد مساحة من المشاركة والجلوس مع بعض في أوقات مخصصة لمناقشة أحوالهم وتطلعاتهم والاستشارة فيما يتوقف عنده من مشاكل أو رسم أهداف تتناسب مع قدراته وإمكانياته.

الروح التفردية والتسلطية عند بعض الأفراد تقوده نحو فكرة الاستحواذ على مسار حياة بقية أفراد أسرته وعدم قبوله أي مشاورة أو رفض لفكرته، مثل هذا السلوك لا يعد بناء ويسبب الشتات الأسري وحالات الزعل المنتهية بالخصومة والقطيعة، إذ أن التشاور بين الإخوة لا تعني مصادرة الرأي وعدم قبول فكرة الاختلاف في الرؤى، وإذا كنا نطمح في حالة التوافق والانسجام بين أفراد الأسرة فهذا لا يعني التطابق التام، بل هو تفهم لظروف الآخر والحفاظ على العلاقات المستقرة بدلا من توتيرها، ولذا فإن العلاج لهذا العامل يكمن في ترسيخ مبدأ العمل والمشاركة الجماعية والتعاون بين أفراد الأسرة، وتعميق العلاقات الأخوية من خلال مبدأ التواصل الأسري واللقاء على طاولة التشاور فإن ذلك يرسخ العلاقات بينهم على الطريق الصحيح بعيدا عن الأنانية والتفرد بالرأي.

طريقة معالجة الخلافات وسوء الفهم بين الإخوة تجنب الأسرة الكثير من ويلات القطيعة، ولكن ما يقع من الكثير هو الهروب إلى الأمام وترحيل المعالجة والسكوت عن بوادر الشقاق والخلاف حتى تستحكم المشاعر السلبية وتبرز القطيعة كقرار نهائي، والمعالجة الحقيقية هي المصارحة وتحمل وقعها الثقيل على النفس بدلا عن المجاملات المقيتة والمضيعة للحقائق، فهناك من الحالات التي نرى فيها الخصومات البارزة فجأة دون سابق إنذار ودون مسبقات كما نعتقد، والحقيقة الخافية هي وجود نار تتأجج مع تكرار المواقف الخلافية وتشتعل وتتوقد شيئا فشيئا حتى تحرق الأخضر واليابس، وهنا وقفة عقلائية واجتماعية تستدعي منا تجنب القرارات المرتجلة والسريعة بالقطيعة بسبب خلاف بسيط يمكن بهدوء معالجته، فردات الفعل الانفعالية والتي لا نسيطر فيها على أعصابنا وتصرفاتنا ستأتي بنتيجة مؤلمة وهي إحداث شرخ في علاقاتنا الأسرية والوصول إلى تدميرها.