آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

خداع النفس

وديع آل حمّاد

محور موضوعي شخصيتان، هما: الحاج عبدالله وابنته صفاء.

كان الحاج عبدالله معلما قبل إحالته على التقاعد، ينتظر أبناءه بعد عودتهم من المدارس ليجتمع معهم على مائدة الغداء، ويستفسر عن أحوالهم وشؤونهم في المدرسة. إلا أن دوام الحال من المحال، إذ تعاقبت الليالي والأيام وكبر الأبناء وتفرقت بهم السبل، وتفرقوا في الأمصار، كل ابن بحث عن طريق مستقبله، وبات هذا الاجتماع اليومي على مائدة الغداء أمرا مستحيلا، فلم يعد بالإمكان تحققه إلا يوم الجمعة، إذ باتت نفس الحاج عبدالله يملؤها الشوق واللهفة لاجتماع يوم الجمعة مع أبنائه.

وابنته صفاء أكثر شوقا ولهفة لمثل هذا الاجتماع؛ لأنها تجد في فترة احتساء الشاي وتناول الحلويات فرصة سانحة لا تعوض للحوار والمناقشة والحديث مع والدها فيما قرأت واطلعت عليه من كتب وروايات. والحاج عبدالله يمنحها سمعه وذهنه لها فيتولد لديها شعور بالثقة في حديثها، ويزداد شغفها للقراءة والاطّلاع في كتب الأدب والفلسفة.

والحاج عبدالله لا يخفي إعجابه بتوجه ابنته نحو مسار الثقافة والفكر والأدب وتشجيعه وإطرائه لها، إلا أن كل ذلك لا يمنعه من توجيهها نحو المسار الصحيح، متى ما رآها تسير في منزلق خطير. فعندما رآها في حوارها معه كأنها تقدم ورقة نقدية تحاكم وتقيم قامات أدبية سامقة كطه حسين وعباس محمود العقاد وإحسان عبدالقدوس وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، إذ أخذت تعلي من شأن بعضهم وترفعه إلى أعلى عليين، وتحط من شأن بعضهم وتضعه في أسفل سافلين، باغتها بسؤال مفاجئ: هل هؤلاء القامات الأدبية قرأتي لهم أم قرأتي عنهم؟ تلعثمت ولم ينطق لسانها ببنت شفة. عرف الأب من عدم إجابتها بأنها لم تقرأ لهم، بل قرأت عنهم أو قرأت قليلًا من نتاجهم.

فلذة كبدي:

ثمة فرق كبير وبون شاسع بين أن تقرئي الشيء أو تقرئي عنه. عندما تقرئين الشيء قراءة جادة ستجدين هويتك بارزة وشخصيتك المعرفية شاخصة ولمستك واضحة بخلاف عندما تعتمدين على قراءة الآخرين للأشياء تصيرين عقلك نحو الغيبوبة الفكرية وتحولين قراءتهم محرابا للتعبد ولا تخرجين من كنفهم.

فلذة كبدي:

ريتشارد فاينمان الفيزيائي يقول: العلم هو ما تعلمناه حول كيفية عدم خداع أنفسنا.

هذه الكلمة في أحشائها درسٌ في غاية الأهمية والخطورة، إذ الحياة تطالعنا بكثير من الأشخاص الذين يخدعون أنفسهم، فلا تكوني منهم. ولو أردنا أن نستعرض فئات ممن وقعوا في شراك خداع النفس لطال بنا المقام ولكن سنذكر بعض الأمثلة:

أشخاص يقيمون فقهاء وعلماء وكأنهم من أهل الخبرة، وهم لم يقرأوا لهم بل قرأوا عنهم، وربما لم يقرأوا عنهم، بل سمعوا عنهم وأطلقوا تقيماتهم النقدية المتمثلة في إعلاء شأن البعض وتقزيم آخر.

وآخرون يقيمون فلاسفة اعتماداً على ما سُمع عنهم لا على قراءة نِتاجهم. وآخرون يقيمون مجموعة من الخطباء استناداً على ما سمعوا عنهم دون أن يستمعوا لهم. وآخرون يعلون من شأن شاعر ويضعون آخرا في قعر الأرض دون أن يقرأوا لأحد منهما، بل سمعوا من البعض عنهما. وآخرون يقرأون كتابًا أو كتابين في المسار الطبي فيعمدون إلى تقييم أطباء لهم باعٌ طويل.

فلذة كبدي:

إن إعجابي بثقافتك وشغفك بالقراءة لا تجعلاني أخلط الأوراق، فشغفك وحبك للقراءة والاطّلاع أمر محبب لدي وأشجعك عليه، أما تقمصك لدور الناقد المحترف، فهذا أمر أتوقف عنده إذ يحتاج إلى تأهيل وتزود معرفي وثقافة واسعة ليكون الفرد فارساً من فرسان هذه الحلبة.

فلذة كبدي:

أنا لا أقول لا يحق لك أن تكون لك قراءة نقدية لأي رمز من رموز الأدب والفكر والمعرفة ولكن بشرطها وشروطها، لتضعي كل فرد في مكانته التي تليق به دون تأليه أو تقديس أو حط أو تقزيم.

شكرت صفاء والدها على هذه التحفة الرائعة من القول، وقالت: يا أبي وقدوتي وموجهي أطلب منك أن تدعو لي بأن تشملني الألطافُ الإلهية بألا أكون ممن يخدعون أنفسهم لأسير في المسار الصحيح.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
زكريا أبو سرير
[ تاروت ]: 8 / 1 / 2024م - 8:55 ص
سلم فكرك ويداك على هذه التحف الفكرية الثقافية الرائعة استاذ وديع، كم نحن نحتاج إلى الكثير من هذا التنبيه الثقافي لكي لا ننخدع بانفسنا، مجال النقد و التقيم الآخر وبالخصوص أهل التخصص يحتاج من المثقف باع وصبر طويل حتى يكون لديه بصيص من الدراية العلمية لاجل يقدم رأيه بصورة علمية و مقبولة .