آخر تحديث: 16 / 5 / 2024م - 8:35 م

آفاق الاستثمار في الدولة الريادية

حيدر العبدالعال * صحيفة مال الاقتصادية

طرحت الاقتصادية الإيطالية ماريانا مازوكاتو مفهوم جديداً لل“الدولة الريادية”يتجاوز دور الحكومة التقليدي كمنظم للاقتصاد إذا تشير إلى ضرورة أن تصبح الدولة بمثابة رائدةٍ ومسرعةٍ للابتكار، مع تقبلها للمخاطر في القطاعات الاستراتيجية الناشئة. في ظل أطروحة“الدولة الريادية”، فإن الدولة الريادية تعمل مع القطاع الخاص بصورة مشتركة في خلق قيمةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ مستدامة. لا تكتفي هذه الدولة الريادية بتوجيه السوق بل تساهم في تشكيله، من خلال الاستثمار في قطاعاتٍ استراتيجيةٍ وتطوير تقنياتٍ جديدةٍ وتنسيق جهود القطاعين العام والخاص. وبناء عليه، فإن هدف الدولة الريادية ليس فقط تحقيق عوائدٍ ماليةٍ قصيرة الأجل، بل إرساءُ اقتصادٍ أكثر ابتكارًا وشمولًا ومرونةً لمواكبة التطورات واستباق متطلبات السوق عبر دراسة الإصلاحات في السياسات والتشريعات، والتي تتطلب جهداً ووقتاً مضاعفاً لتوطين ودعم وخلق الابتكار والصناعة. وفي هذا السياق، وتحت راية التحول للوصول لمستهدفات رؤية 2030، تعمل مؤسسات القطاع العام والخاص على تحقيق مستهدفات الرؤية، حيث يعد الاقتصاد المزدهر ركيزة أساسية لتنويع الاقتصاد من خلال استهداف عدة مبادرات ريادية، ويلعب برنامج صندوق الاستثمارات العامة دوراً محورياً في تحقيق هذه الأهداف.

تعود فكرة صناديق الثروة السيادية إلى أكثر من 200 سنة، غير أنها تبلورت في تعريفها الحديث في الخمسين سنة الماضية، ومع صعود العوائد المالية لعدة صناديق كصندوق التقاعد الحكومي في النرويج. الصندوق النرويجي يعد عملاق الاستثمار العالمي في أسواق الأوراق المالية حيث يدير أكثر من 1,34 تريليون دولار، أي ما يعادل 270 ألف دولار لكل مواطن نرويجي. تأسس الصندوق حديثاً في عام 1990 لاستثمار عائدات البترول والغاز لضمان مستقبلٍ مالي آمن للأجيال القادمة، ويستثمر بشكل متنوع في الأسهم والسندات والعقارات في 70 دولة خارج النرويج فقط، ويمتلك حصصاً في أكثر من 9200 شركة حول العالم. الصندوق النرويجي لا يستثمر في شركات البترول محلياً أو عالمياً، كما أنه لا يستثمر أمواله في السوق النرويجي، إذ تقتصر استثماراته على أوراق مالية وحصص سوقية في أسواق المال والعقار الخارجية فقط حسب لوائحه الداخلية. علاوة على ذلك، فإن سياسة الصندوق تهدف إلى تعظيم المكاسب المالية فقط - والذي يحد من قدرة الصندوق النرويجي على جذب أي استثمارات نوعية إلى النرويج أو حتى تطوير الاقتصاد النرويجي بغض النظر عن العائد الاقتصادي أو المالي. الصندوق النرويجي رغم أنه يعتبر الأكبر عالمياً، إلا أن عدد موظفيه لا يتجاوز 700 موظف فقط، وتعتبر أصوله المالية وعوائد عالية إذا قورنت بنسبة العوائد أو الأصول لكل موظف.

الصندوق النرويجي - كغيره من صناديق الثروة السيادية - انجرف حول الخيار الأسهل في تعظيم المنفعة المالية. في المقابل، فإن برنامج صندوق الاستثمارات العامة يرمي لأهدف أسمى من مجرد المكاسب المالية. يسعى الصندوق إلى تنويع الاقتصاد السعودي ودعم الابتكار وخلق وظائف ذات قيمة مضافة عالية في قطاعات استراتيجية حديثة كالبنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا لتعزيز النمو الاقتصادي في المجالات الرائدة مع مراعاة توطين هذه الصناعات محلياً. وعلى عكس الصندوق النرويجي، فإن الصندوق السعودي مستثمر محلي نشط وممكن للقطاع الخاص السعودي حيث يساهم الصندوق في دعم الشركات الوطنية للوصول للريادة محلياً ودولياً. يدير الصندوق السعودي أصولًا تتجاوز ال 727 مليار دولار ويحتل مكانةً متقدمة عالمياً في حجم الأصول في حال مقارنته ببقية الصناديق السيادية، غير أن هذه المقارنة غير منصفة نظراً لاستثمار الصندوق السعودي في شركات ريادية ليس فقط على المستوى الوطني - بل على المستوى العالمي للوصول للتنمية الاقتصادية المستدامة.

وفي هذا السياق، فإنه من غير الصحيح مقارنة حجم الاستثمارات بين الصندوق النرويجي - أو أي صندوق سيادي مالي - بحجم أو منجزات الصندوق السعودي نظراً لاختلاف الأهداف ومحورية دور الصندوق السعودي في دعم الفكر الريادي. وبالمقارنة المعيارية، فقد نجح الصندوق السعودي في فترة قصيرة عبر استثماره في شركات السيارات الكهربائية من توطين سلسل الإمداد والقيمة لصناعة وتجميع المركبات، تبلورت مؤخراً في عقد اتفاقية تأسيس أول مصنع للإطارات والذي من سيخلق اثراً مضاعفاً يتجاوز قطاع السيارات الكهربائية ليشمل اللدائن والمواد البتروكيماوية مما يزيد من عمق، وحجم، وتنوع الاقتصادي الوطني.

وبالنظر إلى مؤشر التعقيد الاقتصادي «الصادر عن أطلس جامعة هارفارد للتعقيد الاقتصادي» والذي يعطي مؤشراً متقدماً على التعقيد الاقتصادي القائم على قدرة الاقتصاد على تصنيع وتصدير المنتجات بناء على تنوع وتطور المنتجات التي تصدرها وتنتجها الدول حيث يرتفع تصنيف الدول إذا ارتفع عدد المنتجات الأكثر تعقيداً في سلاسل الإمداد وذات القيمة المضافة الأعلى التي تصدرها الدولة. يشير مؤشر التعقيد المرتفع إلى اقتصاد أكثر تنوعًا وتقدمًا وتتميز الدول ذات الاقتصاد المعرفي والاقتصاد المتنوع بارتفاع أداءها في هذا المؤشر، حيث يمكن للدول التخصص في إنتاج سلع وخدمات محددة وتبادلها مع دول أخرى. يساعد هذا التخصص والتعقيد في سلاسل الإمداد على تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. على سبيل المثال، تتمتع سويسرا بمؤشر تعقيد اقتصادي مرتفع بسبب صادراتها من الساعات والأدوية عالية الدقة. مقابل انخفاض ترتيب الدول التي تعتمد بشكل كبير على صادرات المواد الخام كالمنتجات الزراعية البسيطة حيث أن زراعة القمح أقل تعقيداً وأقل عائداً من صناعة المخبوزات. وهنا، تجدر الإشارة إلى انخفاض ترتيب النرويج في مؤشر تعقيد الاقتصاد في السنوات الأخيرة على الرغم من ارتفاع معدلات التعليم وارتفاع الانفاق الحكومي في النرويج على التعليم بمعدل 45% مقارنة بمتوسط دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. الجدير بالذكر أن التراجع في مؤشر التعقيد الاقتصادي رافقه تذبذب في الناتج المحلي الإجمالي على الرغم من ارتفاع العائد المالي من استثمارات الصندوق إذ أن تعظيم العوائد المالية قد لا يحقق العوائد الاقتصادية مما يشكل نقطة افتراق في سياسات التنمية الاقتصادية. في المقابل، نلاحظ ارتفاع ترتيب المملكة بشكل ملحوظ خلال الفترة الماضية نظراً للمشاريع الاقتصادية الريادية والتي يقودها الصندوق تحت توجيه الدولة الريادية للوصول لمستهدفات رؤية 2030 والتي نتج عنها في فترة قياسية ارتفاع في التعقيد الاقتصادي.

وإذا كان صندوق الثروة النرويجي قد اختار طريقًا سلسًا وسطيًا وأبحر وسط أمواج هادئة محققاً عوائداً سنوية بمتوسط 6% منذ عام 1998 فحتمية ذلك غير مؤكدة في ظل تذبذب أسواق المال العالمية، علاوة أن البحار الهادئة لم تصنع بحارًا ماهرًا أبدًا. في المقابل، فإن الإبحار بعزيمةٍ في مياهٍ أكثر تلاطمًا اليوم، تصنع وتربي جيلاً طموحاً قادر على تطوير واستكشاف قطاعاتٍ لم تحطأها قدم للوصول إلى عوائدٍ مالية واقتصادية تنموية مضاعفة ومركبة، وإن رافقتها بعضٌ من المخاطر المحسوبة. وبناء عليه، فقد تتذبذب العوائد المالية على المدى القصير للاستراتيجية التنموية الاقتصادية مقارنة بعوائد الصناديق التقليدية الثابتة، وهذا أمر طبيعي بسبب الاختلاف الجوهري بين الربح المحاسبي المالي قصير الأمد والربح التنموي الاقتصادي طويل الأمد. إن التسارع الذي نشهده في العصر الحالي في عدة مجالات يفرض علينا ضرورة التكيف والتطور لأجل الازدهار، وهذا التكيف والتطور محال تحقيقه بالاتكال على الطرق التقليدية - بل يتطلب استثماراً ريادياً فإن عدم ارتكاب الأخطاء سيكون له آثار ومخاطر أكبر من تجنب خوض الغمار فيها.

وإذا راودك الشك في عوائد الاستثمارات للمشاريع الريادية في المملكة فعليك بتحليل الوضع الراهن عبر دراسة التاريخ. وبالنظر إلى تاريخ الاستثمار الاقتصادي والتنموي للدولة الريادية فقد استثمرت ومولت المملكة من خلال الصندوق قبل 40 سنة في عدة مشاريع غير مجدية من الناحية المحاسبية مالياً في وقتها إذ وصفت أنداك بالمشاريع الحالمة في كاستثمار وتمويل الصندوق لعدة شركات ناشئة كشركة سابك، ومعادن، وبترومين، والبحري، وحتى تمويل إنشاء خطوط ضخ البترول والغاز بين شرق المملكة وغربها. هذه المشاريع الحالمة في وقتها كانت ريادية وسابقة لعصرها - واليوم - لا نستطيع تصور الاقتصاد العالمي بدون إحدى أكبر خمس شركات للبتروكيماويات ولا يغيب علينا للحظة الأثر الاقتصادي للشركات الوطنية الرائدة التي أسسها أو مولها أو احتضنها الصندوق. وبناء على هذا النجاح التاريخي، فإن الاستثمار الريادي تحت رعاية الدولة الريادية هو جزء من نسيج هذا الوطن التاريخي وطبيعة المكون البشري للمجتمع السعودي الطموح وقصص وأرقام وحجم النجاح هي خير شاهد.

هذه الاستراتيجيةٌ الجريئةٌ والمدروسة والموزونة تتماشى مع روح التحوّل والطموح الذي يميز رؤية المملكة. يحمل صندوق الاستثمارات العامة حُلمًا سعوديًا أكبر من مجرد تأمين عوائد ربحية قصيرة الأمد، بل يحلق بأهدافٍ طموحة نحو تحوّل المملكة العربية السعودية إلى محرّكٍ للابتكار والتنويع الاقتصادي، ويخطّ حكايته على أرض الواقع بقِصصٍ تختلف اختلافًا جوهريًا عن نهج صناديق الثروة التقليدية. الأرقام على أرض الواقع تحكي قصة التحول - وهي قصة تنويعٍ واقعية - لا تكتفي بالتغنّي بالأرقام، بل تُرسّخ جذورها في مشاريعٍ ملموسةٍ تُلامس حياة كلِّ إنسان كما فعلت عبر العقود الماضية.