متى يقرأ الوزراء؟!
يتبادر هذا السؤال إلى ذهن كثيرٍ من المعنيين بالقراءة والكتابة، وينقدح هذا السؤال حول شخصيات الوزراء الذين صنّفوا في بعض فنون العلم، وسبب هذا الانقداح أنه بوجود المسؤوليات الجِسام المنوطة بالوزراء، كيف يوفقون بين مسؤوليات المنصب والقراءة والتصنيف؟! هذا إذا ما أضفنا أموراً أخرى اجتماعية وأسرية وغير ذلك.
في الحقيقة أرى أن تحقيق ذلك ناجمٌ عن حسن تدبير للوقت، وتوزيعه بشكل منظّم وفق جدولة لبرنامج الحياة اليومي شبه الصارمٍ للشخص العادي، فإذا كان شخصية قيادية فحريٌ به أن يكون أكثر صرامة مع الوقت لينجز ما لم ينجزه الإنسان الذي لا يقدّر قيمة تنظيم الوقت، والوقت يلعب دوراً مهماً في حياة الفرد صاحب الهمّة؛ لأنه تعوّد على الإنجاز والعطاء، على المستوى الفردي أو الجماعي.
وفي هذا الصدد لم يبخل علينا التاريخ بإيصال نماذج من تلك الشخصيات التي أعطت للحياة معنى آخر، ذكرت ذلك مصنّفات التراجم والسِّيَر، وسأكتفي بشخصية واحدة عاشت في القرن السادس الهجري، وإن كانت النماذج الوزارية التي قرأت عنها وتألقت في سماء الفكر والعطاء كثيرة.
الشخصية هي: «راشد الدين» أبو الحسن سِنَانُ بن سلمان البصري «ت 588 هـ» الذي قال عنه بعض مؤرخيه أنه كان رجلَ دولةٍ من طراز فريد، فهو حاكمُ قلاع الإسماعيلية في ساحل بلاد الشام الشمالي، فقد كان - بمعيّة مهام الدولة - يقضي أيام الأسبوع متنقلاً بين القِلاع والحصون، وخصص يومين للإقامة بجبل مشهد حيث ينقطع للتأليف، ورصد النجوم، والعبادة والتأمّل. وكان يسير بين القلاع في طرق ومعابر سرية مشياً على الأقدام لا يعرفه أحد، ويكثر من الذهاب إلى شيزر وحماة وحِمص والشام متخفياً. اه.
بقراءة هذا النص نجد أن هناك تنظيماً وحرصاً على إنجاز الكثير مما تتطلبه أمور الحكم وما أدراك ما أمور الحكم في السابق، ومع ذلك يُخصص يومين للتأليف والتأمّل ونحو ذلك، ناهيك أن مستوى المعرفة لمنصب الوزارة عاملاً معززاً للحصول على هذه الفرصة التي يرجوها الحاكم، ولذا كانت مستويات المعرفة لدى الوزراء محل فخر واعتزاز وعناية عند بعض الحكّام؛ لأن هذا المنصب حريٌ بأن يكون ذا عقلية كبيرة وفاعلية مستدامة في العطاء وتقديم المشورة في الأوقات الحرجة، وهذا ما لا يمكن الحصول عليه إلا ببذل الجهد في القراءة وإعمال الفكر، بالإضافة إلى الملكات والمهارات كالنباهة والفطنة اللتان تمنحان من يُستوزَر قيمة كبيرة.
ولو أسقطنا هذا النموذج على المستوزَرين في الزمن الحاضر، فلا شك أن بعضهم يمتلك هذه المهارة في تنظيم الوقت وتخصيص جزءٍ للقراءة أو التأليف أو بهما معاً، خصوصاً وأن هذا المنصب يُلزم صاحبه أن يكون بذلك المستوى من الاطلاع الكبير في شؤون الحياة والمنصب الذي وُلِّيَ فيه؛ ليكون أكثر قدرة على العطاء في مجاله ومجالات أخرى.
«همسة» بناء على ما ذُكر، حريٌ بشبابنا الذين يقضون أوقاتاً كثيرة أمام وسائل التواصل أو الترفيه الزائد عن الحد، أن يلتفتوا إلى أوقاتهم ويعيدوا جدولتها، وأن يمزجوا المرونة بالصرامة، خصوصاً وأن حياتنا غدت متطلباتها كثيرة، ولكن بحسن تنظيم الوقت ننجز الكثير على صعيد التثقيف في مجالات عدّة، ومن يعلم أن هذا الشاب سوف يصبح وزيراً/مسؤولاً في المستقبل القريب أو البعيد!!، وهذا هو المأمول من شبابنا أن يكونوا قادة المستقبل كلٌ ومجاله، وهذا لا يتأتى بالاعتماد على الدرجات الجامعية لوحدها؛ بل هناك مهارات لا تمنحها الشهادة الجامعية، فلو استطاع الشابُ أن يرسم خارطة حياته من الآن فبها، شريطة أن تكون الخارطة في حدود التصوّر الممكن لا المستحيل أو الخيالي، وأن تكون قابلة للتغيير نحو الأفضل.
ولو تطلّعنا إلى أسماء أخرى ممن تسنّم منصب الوزارة وأعطى نفسه ما تستحق من التثقيف، لوجدناها كثيرة لا تُحصى، وليس العبرة بكثرة الأسماء؛ بل العِبْرَة بنموذج العطاء والثقافة التي قدّمها، التي لا زال صداها يرنّ في أذن القرون المتعاقبة، وهذا إنما يدلّ على الهمّة والإخلاص في التعلّم، واستثمار الأوقات.