الشاشةُ والمتلقِّي.. مفاعِيلٌ وإِغراءَات
تتوسَّع باستِمرار استعمالاتُ الشَّاشة، حتَّى أضحَت جزءًا لا يتجزَّأ من وجُود الإنسان، فما كَان في الماضِي هامشيًّا، ولا يؤبهُ به، باتَ مكشوفاً وحاضراً بصُورة دائِمة؛ ما أكسبَه أهميَّة كُبرى، جعلتهُ في صَدارة وأولوِية الحياة، والأمثِلة متعدِّدة، فتداولُ القهوَة، والدَّعوة إليها، والتقاطُ الصورِ للكُوب أثناءَ الذَّهاب والعودةِ، إنَّما تعتبرُ تسويقاً لها، وإشهاراً لشيءٍ قبلَ عقدَين لم يكُن بارزاً ولا واضحاً، والشاشةُ هنا هي الأصلُ في عمليَّة الإشهَار والتَّسويق؛ لِقيامها بأدوارٍ إضافيَّة، غيرَ مخطَّط لها، وهوَ ما يطرحُ السُّؤال عن مفاعِيل الشاشةِ وتأثِيراتها على الإنسَان، والتغيُّرات التي أحدثَتها في سلُوكه.
رافقَ دخُول الشَّاشة إلى الحيَاة الإنسانيَّة؛ ظهُور عالَم موازٍ، لا يمتُّ للواقِع بصِلة، اُصطُلح على تسميتهِ بالافتراضِي، أخذَ الأفرادُ فيه يُمارسُون حياتَهم التي يرغبُون في ممارستِها في واقعِهم، ما أنتجَ تشابُك العوالِم، وتوازِيها، وتمازُج الواقِع بالخيَال، والحقيقَة بالزَّيف، إلى أنْ غدا الاثنَان لا ينفصِلان، وكأنَّ بينَهما علاقةٌ وثيقَة، حيثُ العلاقَات الناشِئة عبرَ الشَّاشة؛ انتقلَت لتغدُوا علاقَات اجتماعيَّة جدِيدة، ذاتَ سلوكيَّات منسجِمة مع المجتمَعات المختلِفة، فكَما ليسَ شرطاً أنْ تلتزِم بمرافقَة أحدِ أبناءِ بيئَتك، فكَذلك ليسَ شرطاً أنْ تلتزِم بسلوكيَّاته وأخلاقيَّاته وتصرُّفاته، إذ لكُل واحدٍ منكُما استقلالٌ عن الآخر، ضِمن جَوانب العلاقَات، والممارسَات، والمعارِف.
الاستقلالُ الفردِي، والبُعدُ عن التَّأثيراتِ الافتراضيَّة، والبقاءُ بذاتِ الهُوِيَّة المنفصِلة؛ تعدُّ إحدَى نتائِج الممارسَات عبرَ الشَّاشة، التي تدعُو الأفرادَ إلى التماثُل والتشابُه، ضمنَ عالمِها الافتراضِي، لكنَّها لا تستطِيع الإمسَاك بهم خارجَها، ولهذَا يستعيدُون نشاطَهم، وسلوكيَّاتهم المعتَادة، ويمارسُون أفعالَهم بعيداً عن رقابَة الآخر، البعِيد، الذِي يظلُّ يراقبُ ويشاهِد، ماذَا تفعلُ المجتمعَات الموازِية، وما السُّلوكيَّات الصَّادرة عنها؟ وهوَ أمرٌ طبيعِي في عَوالِم ما خلفَ الشَّاشات، حيثُ الحواجِز تُمحى، والفواصِل لا يعودُ لها وجُود، ويصبِح الأفرادُ متوافقِين على نوعٍ محدَّد من السُّلوك؛ يمارسُونه ضمنَ عالمِهم البدِيل.
تَوافُقُ الأفرادِ علَى سُلُوك محدَّد لا يعنِي انتقالهُ إلى واقعِهم، إنَّما يشيرُ إلى تأثِيرات ظرفيَّة، تنتهِي مفاعيلهُ بانتهاءِ وقتِه، فكَما أنَّ للبقَاء في الواقِع أثراً على الفَرد، كَذلك البقاءُ خلفَ الشَّاشة، والتَّفاعُل معَ العوالِم المُوازِية، له ذاتُ التَّأثير، وهُنا يتَّضح مِقدار الاختِلاف والتَّباعُد بينَ العوالِم، رُغم الجهُود المبذُولة للتَّوحِيد بينَها، من أجلِ إنتاجِ المُواطن الافتراضِي، الذِي سيعدُّ مُواطناً عَالميًّا، يعيشُ في جميعِ الأماكِن، ويتفاعَل معَ جميعِ الثَّقافات، ويلتزمُ بمختلَف القوانِين، وهوَ مشروعٌ حقَّق بعضَ النَّجاحات، لكنَّه لم يستطِع تجاوُز الفَوارقِ الكُبرى في الهُويَّات والثَّقافات، إذ ظلَّ حبِيس الأفكَار المثاليَّة الطَّموحة، دُون أنْ يكُون له نصِيب من التحقُّق على أرضِ الواقِع.
تسعَى الشاشةُ إلى رسمِ صُورة مِثاليَّة عن حيَاة الأفرَاد وكيفيَّة إدارتِها، وهذَا لا يتناسبُ معَ الاختلافَات الحادَّة بينَ الثَّقافات، التي تسعَى إلى تأكِيد حضُورها، واستمرارِ وجُودها، في قِبال آلة عِملاقَة تعملُ على محوِها، وتعدِيلها؛ كَي تتوافقَ معَ المتغيِّرات الجديدَة، الأمرُ الذِي أنتجَ نوعاً من الازدِوَاج في التَّعامُل، فانقسمَت العوالمُ وتجزَّأت، وباتَ لكلِّ واحدٍ استقلالٌ عن الآخر، وتأثيرٌ محدودٌ عليه، وهوَ ما انعكَس على الأفرَاد، الذينَ أصبحُوا مُزدوجِي الهُويَّة، وفاقدِي الاختِصاص بثقافةٍ واحدةٍ محدَّدة، فثمَّة تمازُجٌ وتداخُلٌ بينَ الهُويَّات والثَّقافات، يؤدِّي إلى نوعٍ من السِّيولة في الاستِقبال، معَ محاولَة الحِفاظ علَى الأصُول، وعدَم المسَاس بالثَّوابت.
الأصولُ والثَّوابتُ تعتبرُ أهمَّ وأثمنَ ممتلكَات الأفرَاد، وحينَ تنفلِت من بينِ أيدِيهم، وتضِيع بداخِل الفضَاء؛ يغدُو وجودُهم بلا معنَى، وبلا هدَف، فيتماثلُون معَ الآلات، ويمارسُون حيَواتهم ضِمن أُطُر محدَّدة، ومرسُومة، وفقَ قواعِد متَّفق عليها، تشملُ جميعَ مناحِي الحيَاة، وأبرزَ مستجدَّاتها ومتغيِّراتها، وتكُون النتيجةُ فرداً مؤمناً بقِيم جديدَة وسلُوكيَّات مختلِفة، تقُود إلى صِدامه معَ مجتمعِه وواقعِه، وهيَ إشكاليَّة طُرحت وما زالَت، منذُ ظهُور الشَّاشات، وهيمَنتِها علَى حيَاة النَّاس، ووقوعِهم تحتَ تأثِيرها.
استمرارُ الإشكاليَّة يعنِي استمرارَ الصِّراع ما بينَ العَوالم، ومُحاولة جذبِ الأفرَاد والتَّأثير عليهم، فالشَّاشة اليَوم، بما تمتلكُ من قوَّة وانتشَار؛ لها اليدُ العُليا، وتستطِيع توجِيه الأفرَاد، لكنَّها تظل ُّعاجِزة عن إعلانِ نصرٍ حاسِم؛ بسبَب مُقاومة العَوالم الأُخرى، عَوالم الأصُول والثَّوابت.
ما الذِي يقعُ وراءَ الشَّاشةِ ويجذبُ المتابِع؟ سُؤال مفتُوح ومستمرُّ الحضُور، إذ لكلِّ فردٍ اهتِمام مختلِف عن الآخرِين، رُبما تَشارك البعضُ اهتماماً معيناً كالفَن والأدَب، أو الثَّقافة والفِكر، أو الاقتِصاد والاجتِماع، أو السِّياسة والتَّخطيط الاستراتِيجي، حيثُ يشعُرون بالانتِماء المُشترَك؛ ما يدفعُهم إلى تكوِين مجمُوعات متآلِفة، تُشكِّل نَواة المجتمعَات المُوازِية، التي تهتمُّ بالحصُول علَى معلُومات عن الاختِصاص الذِي يرغبُون في مُمارستِه، وهوَ ما سيؤدِّي إلى توحُّدهم ضِمن إطارٍ جامِع؛ هوَ إطارُ هذَا الاختِصاص، إنَّما من جِهة ثانِية، لا يستطيعُون منعَ الاختِصاصَات الأُخرى من التَّأثير والتَّداخُل معَهم.
التَّداخُلُ ما بينَ الاختِصاصَات؛ سِمةُ العَوالمِ المُوازِية، فالافتراضِي لا يلتزمُ بحدُود معيَّنة، إذ ينتَقِل ما بينَ الثَّقافات والهُّويَّات، مُستدعياً الاختِلافات بينَها؛ ما يجعلُهُ عُرضة للتَّغيُّر والتَّبدُّل، فالثَّبات ليسَ إحدَى المِيزات التي يتمتَّع بها، حيثُ الأصلُ هوَ التَّغيُّر، الأمرُ الذِي يقودُ إلى الاتِّساع المستمرِّ في التَّبادُل الثَّقافي والمعرِفي، والتَّداوُل للمعلُومات التَّخصُّصيَّة في الجوانِب المختلِفة، فالأفرادُ لا يكتفُون بما يمتلكُون من معرِفة، بلْ يسعَون إلى زيادتِها، والإضَافة عليها، ليكتمِل المشهَد أمامَهم، وفي تصوُّراتِهم الذِّهنيَّة.
الاتِّساعُ المستمرُّ في حضُور التَّخصُّصات وتداخُلها؛ يقُود الأفرَاد إلى التَّقارُب معَها، حيثُ أخبَار العَالم أصبحَت مُتاحة بلمسَة واحِدة، فيمكنُ الاطِّلاع عليها، والاستِزَادة من تفاصِيلها، والبحثُ عن أسبَابها ونتائِجها، وهوَ ما يعنِي حضُورها بصُورة دائِمة، وتشكيلُها إغراءً بالنِّسبة إلى الفَرد، الذِي سيسعَى إلى اكتشَاف المخفِي، ومُحاولةِ رُؤيتِه، وكُلَّما تعمَّق أكثَر؛ توسَّعت معرفتُه، وازدادَت تشعُّباً، فيزدادُ الإغرَاء، إلى أنْ يصبحَ الفضُول سيِّد الموقِف.
فُضُولُ الأفرادِ تِجاهَ المعلُوماتِ والمعَارف؛ سِمةٌ إنسانيَّة مُشتركَة، فالجمِيع يسعَى إلى اكتشافِ المجهُول، ولهذَا لنْ يكُون غريباً انتشارُ الخُرافة، مِثلما انتشرَت المعرفَة، إذ الاثنانِ ينتمِيان إلى المخفِي، الذِي يسعَى الأفرادُ إلى كشفِه، ومعرفتِه، وهوَ أحدُ أهدَاف وجُودهم وبقائِهم داخلَ العَالم الموازِي، حيثُ يتيحُ إمكَانيَّة التعرُّف على الممنُوع والمحجُوب، بداخلِ الثَّقافات والهُويَّات، كَما يفسِّر البحثَ عن موضُوعات معيَّنة، أو حوادِث محدَّدة، أو أجزَاء من تفاصِيل هامشيَّة، قدْ لا تظهرُ بشكلٍ واضِح.
السَّعي إلى كشفِ المجهُول؛ هدفٌ يسعَى إليه الفَرد، والعالمُ الموازِي بما يتيحُ من حريَّة؛ يمنحُهُ إمكانيَّة تحقِيق ما يُريد، وهُنا تتسَاوى الحقِيقة والزَّيف، اللتانِ تتناوبَان عليه، وتتعاركَان من أجلِ الظَّفر به، عبرَ تقدِيم المعلُومات التي يُريد؛ ما يعنِي استِمرار فضُوله، وعدَم وصُوله إلى نُقطة الإشبَاع، فكُلَّما حصَل على تفصِيل، سعَى إلى آخر، وكُلَّما وصَل إلى عتَبة؛ تجاوزَها إلى غيرِها، حتَّى تغدُو حياتُه الافتراضيَّة؛ مُلاحَقة مستمرَّة للمخفِي والمحجُوب.
الملاحَقةُ المستمرَّةُ للتَّفاصيلِ المختبِئة والهامشيَّة؛ ستغدُو إحدَى أهمِّ سِمات الإنسَان الافتراضِي، إذ سيسعَى لتنميتِها وزيادتِها، وإدماجِها في واقعِه، وبما أنَّ العوَالم تتمازَج، وتتبادَل الخبرَات والتَّأثيرات، سيكُون ظهُورها مسألَة وقتٍ لا أكثَر.
فضولُ الأفرادِ وميلِهم للبحثِ عن التَّفاصيلِ والأسرارِ المجهُولة؛ أعادَ تكوِين وَعيِهم الثَّقافي، فورَاء كلِّ نجَاح قصَّة، وورَاء كلِّ فشَل قصَّة؛ إذَن ثمَّة قِصص تُروى ورَاء كلِّ صِناعة، أو تِجارة، أو قَصيدة، أو روَاية، أو حدَث سِياسي، أو اقتِصادي، وينبغِي الكَشف عنها، بلْ حينَما لا تكُون ثمَّة قِصص، وليسَت هُنالك إضَافات، سيعمدُون إلى اختِراع قصَّة وترويجِها، باعتبارِها الأصلَ الذِي انبثقَت عنه، والهُويَّة التي انتمَت إليها، إذ هاجِس الأصلِ والهُويَّة؛ سيظلُّ يُلاحِقهم ضِمن واقعِهم المادِّي، كَما لاحقَهم ضِمن عَالمهم الموازِي.
القصَّةُ الأصلُ، والحِكايةُ التي ينبغِي أنْ تُروى، هاجسٌ يُلاحِق الأفرَاد، ويعملُ على إعادَة تشكِيل وعيِهم، فليسَ هُنالك أسرَار بعيدَة، أو مجهُولة، وإنَّما خفايَا تمَّ اكتشافُها ونشرُها، والتَّسوِيق لها؛ من أجلِ ملءِ الفضُول، والاستمرارِ بجذبِ الانتبَاه؛ للتَّرويج لأنفسِهم، أو أفكَارهم، أو منتجَاتهم؛ إذ هيَ الوسيلةُ الأسرَع، والأكثَر تشويقاً؛ ما يشِيرُ إلى حتميَّة التَّغيير وتبادُل التَّأثير والتَّفاعُل بينَ العَالمين الحقِيقي والموازِي، فكلَاهما مؤثِّر في الآخر؛ يمنحُه جُزءاً من الهُويَّة والثَّقافة، ويأخذُ منه أجزَاء من هُويَّات الآخرِين وثقافاتِهم، ثمَّ يعملُ على دمجِها، وإعادَة تكوِينها، وإخراجِها ضِمن قَالب جدِيد.
القوالبُ الجديدةُ قصصٌ لا تنتهِي، فكُلَّما تمَّ اختراعُ واحِدة، وانتشرَت، ثمَّ انتهَت، تمَّ اختراعُ أُخرى، وأُخرى، وأُخرى، لتمُرَّ بالدَّورة الوجُوديَّة ذَاتها، حيثُ الهدَف ليسَ الإبقَاء على القصَّة، بقَدر ما هوَ اختِراع للجدِيد، والبحثُ عنه، حتَّى أصبحَ البحثُ هوَ الهاجِس المسيطِر على أفكَار الأفرَاد، الذينَ يستيقظُون صباحاً متسائِلين عن الجدِيد، والمختلِف، والفرِيد، الذِي ستتمُّ إضافتُه على القصَص السَّابقة، وهذَا ما يشرَح سبَب عودَة بعضِ القصَص القدِيمة إلى البُروز، لأنَّها تحتوِي تفاصِيل إضافيَّة، تتقاطَع معَ مُستجدَّات الحيَاة اليوميَّة، أو لأنَّها تحتوِي تفاصِيل مجهُولة، لم يتمَّ الكَشف عنها من قَبل.
هاجسُ البحثِ عن سرديَّة مختلِفة ومتفوِّقة، أصبحَ سِمة حياتيَّة بارِزة، وانتقَل من إطارِه البسِيط؛ المتمثِّل في التَّكاذُب والاختِراع، إلى ضرُورة التَّصديق والاقتِناع، فالسَّرديَّات لا تتمُّ كتابتُها وإنَّما رِوايتُها، لتظلَّ دوماً علَى الألسِنة، تتناقلُها وتُضيف إليها، وحتَّى عندَما تُكتب، لا تحمِل معنًى نهائيًّا وقطعيًّا، بلْ يتمُّ تداوُلها باعتبارِها رأياً شخصيًّا ورُؤية خاصَّة، لتستمرَّ بالتكاثُر، والتَّوالُد، والانتِشار، ويتمُّ الاهتِمام بها، والإعلَاء من قيمتِها، لأنَّها تشكِّل كشفاً للأسرَار، وفضحاً للخفايَا.
كشفُ المخفِي وهاجسُ السَّرديةِ المختلفةِ والمتفوِّقة، باتَ المسِيطر على أفكَار الأفرَاد، حيثُ يعمَل على توجِيه وعيِهم، وإعادَة اختِراع تفضِيلاتهم، وما كَان ممنُوعاً وحراماً، أضحَى مباحاً وحلالاً في العَالم الموازِي، وهكَذا غدَت الأسرَار والفضائِح؛ أموراً اعتياديَّة، لا تستحقُّ الحدِيث عنها؛ بسبِب ظهُورها وانكشَافها، وهوَ ما نقَل الوعيَ الإنسَاني إلى مرحَلة متقدِّمة؛ سيطرَ فيها هاجِس التفوُّق على سلوكيَّاته وأفكَاره، فاتَّجه إلى محاولَة ربطِ الأشيَاء بقصَص يسرُدُها، مِثلما اتَّجه إلى اختِراع تسمِيات غيرِ مسبُوقة، أو التَّنويع على التَّفاصيل، والإضافَة عليها؛ بهدَف تحقِيق تميُّزها وتفرُّدها.
التميُّزُ والتفرُّدُ؛ صِفتان أنتجَهما السَّعي إلى التفوُّق، إذ حِينما عمَد الفَرد إلى اختِراع سرديَّته الخاصَّة، جعَل التَّكاذُب والغشَّ من أولويَّاته، فبرزَت سُلوكيَّات وأفكَار مختلِفة عن المُتداوَل؛ اتَّسمت بالجدَّة، والطَّرافة، والكَشف، حيثُ لجأَ إلى تسرِيد حيَاته، وكَشف تفاصِيلها، وإظهَارها على الملَأ، فلا عائِق يمنعُ النَّشر، ما دامَ الأمرُ ينتمِي إلى الرَّأي الشَّخصي والرُّؤية الخاصَّة.
الرَّغبةُ في تَسريدِ الحياةِ وديمُومتِها عبرَ العالمِ الافتراضِي، انتقلَت إلى الواقعِي، فما هوَ موجُود في الفضَاء الموازِي، برزَت تأثِيراتُه ومفاعِيلُه على الحيَاة الواقعيَّة، ولأنَّ غالبيَّة الأفرَاد لا يمتلكُون قصصاً يسردُونها؛ اتَّجهوا إلى اختِراع قصصِهم الخاصَّة، المعتمِدة على التَّكاذُب، غيرَ أنَّ قسماً كبيراً منهم اكتشَف عجزَه عن الاختِراع، فخيالُهم لا يُسعفهم، وهُنا وقعُوا في إشكَال ثقَافي، فمن ناحِية يشاهدُون سرديَّات الآخرِين، وكَيف أنَّ حياتَهم تسِير وفقَها، ومن ناحِية ثانِية يعجزُون عن الإتيَان بسرديَّتهم الخاصَّة؛ لذَا لم يكُن أمامَهم إلَّا استِعارة سرديَّات الآخرِين.
الفضاءُ الموازِي مفتوحٌ ومتاحٌ أمامَ الأفرَاد، فهوَ عالمٌ متكَامل، يسكنُه البشَر، ويتفاعلُون من خِلاله، ومفاعِيلُه تظهَر على حياتِهم الواقعيَّة، التي ستتأثَّر بما يحدُث خِلاله؛ لهذَا سيكُون التَّكاذُب أبرزَ مِيزاته، والإتيَان بالجدِيد أهمَّ سِماته، وهُما أمرَان سيجعلَان من الفَرد صاحِب قيمَة، وصَوت مسمُوع، لا فرقَ بينَ رجُل وامرَأة، أو كَبير وصغِير، أو عالِم وجَاهل، إذ الجمِيع متساوُون، ولهم ذاتُ الحقُوق، وهُنا برزَت مسأَلة الاستِعارة، وبأيِّ كيفيَّة! فطَالما أنَّ الفَرد لا يمتلِك القُدرة على الاختِراع، سيستعِير أدوَات الآخرِين، ومن ضِمنها سرديَّاتهم.
سرديَّاتُ الآخرِين تتمُّ استعارتُها بشكلٍ مبطَّن؛ حتَّى لا يخضَع المُستعِير للمساءَلة القانُونيَّة العالميَّة، فالفضَاء الموازِي له قوانِينه الحاكِمة، التي هيَ أشدُّ وأقسَى من القوانِين الواقعيَّة، ورُغم أنَّ الأمُور تبدُو منفلِتَة، وغيرَ خاضِعة للمُراقبة والمساءَلة، إلَّا أنَّ الحَال على العَكس تماماً، إذ ثمَّة مُراقِبون يرصُدون المشهَد، ويبحثُون عن الثَّغرات، ويعملُون على الإبلَاغ عنها، وإزالتِها، ورُبما إقفَال البَاب بوجهِ الأفرَاد، الذينَ يمارسُون الاستِعارة، التي ستغدُو كُبرى إشكاليَّات الشَّاشة، وأهمَّ سلبيَّاتها؛ حيثُ السَّرقة تتخفَّى وراءَها، وتستبدِل مُصطلحاً بمُصطَلح؛ من أجلِ القبُول به واستِساغته.
القبولُ بالمصطلحاتِ الجديدةِ واستبدالِ القديمةِ؛ من تأثِيرات التَّكاذُب ومَفاعِيله، فكَما أنَّ الفضَاء الموازِي امتلأَ بالزَّيف، كذلِك الواقِع سيمتلئُ به، وستصِله التَّأثيرات مهما حاوَل الأفرَاد منعَها، إذ هيَ من التَّطوُّر الطَّبيعي، الذِي لا يمكنُ إيقافُه، لذَا لنْ يكُون غريباً استخدامُها كوسِيلة من وسائِل التَّوجيه، وهوَ ما حدَث، حِينما تمَّ استبدالُ مُصطلَح ”السَّرقة“ بمُصطلَح ”الاستِعارة“، أو مُصطلَح ”الشُّذوذ“ بمُصطلَح ”المِثليَّة“، أو إِطلاق مُصطلَح ”مشهُور“ و”مؤثِّر“ على أفرَاد؛ ليسَ لهم وزنٌ معرِفي.
إغراءُ التَّماثُل؛ تعدُّ إحدَى أهمِّ وأبرزِ السَّلبيَّات الثَّقافيَّة، التي يموجُ بها عَالم الشَّاشة، ولأنَّ مفاعِيل الشَّاشة قويَّة، ومُتجاوِزة، سيكُون له حضُور في الحيَاة الواقعيَّة، التي بدورِها ستمتلئُ بالتَّشابُه والتَّماثُل، وهوَ ما سيؤدِّي إلى التَّأثير على الهُويَّة والأصَل، إذ ستنهار، وتفقِد قدرتَها على المقاومَة؛ لتصبحَ من الماضِي، وحِينها سيتمُّ استبدالُها بهويَّة جدِيدة؛ ذاتِ سِمات ومزَايا تختلِف عن سابقتِها، حيثُ ستفرِض على صاحبها الالتِزام بالظُّهور في صُورة معيَّنة، وسلُوك محدَّد، وإلا سيتمُّ عقابُه، عبرَ حظرِه، والتَّشهِير به، وإزالتِه.
العقلُ الإنسانيُّ عاجزٌ ومحدُود، وحينَ يسعَى إلى الكَمال، سيواجِه مشكلَة كُبرى؛ تتمثَّل في عدَم قُدرته على الاختِراع، وهيَ سِمة أغلَب البشَر، الذينَ سيكتفُون بالمشاهَدة؛ لكَونهم لا يستطيعُون تكوِين سرديَّاتهم الخاصَّة، أو طَرح رُؤيتهم للوجُود؛ الأمرُ الذِي يعنِي عجزَهم عن التَّكاذُب والإتيَان بالجدِيد، وهما الصِّفتان اللتانِ تمنحَان الفَرد التفوُّق والتَّميُّز، لذَا سينكَشِف عجزُهم، وعدَم تأقلُمِهم، وسيُجبرون على أحَد خِيارين؛ إمَّا البقَاء خارِج التَّاريخ، أو الاندِماج في التَّاريخ عبرَ التَّماثُل معَ الآخرِين، وهيَ الصِّيغة السَّلبيَّة والمُتوحِّشة للشَّاشة.