آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:54 م

عقيلة محمد الربح شاعرة من بلادي

سعود عبد الكريم الفرج

الإبداع لا يباع ولا يشترى ولايورّث وإنما هو موهبة تحتاج إلى صقل ومرآن حتى تصل إلى مرحلة النضوج بالجد والمثابرة فتتحول تلك الموهبة إلى إبداع تلعب البيئة الحاضنة دورها سلبا أو إيجابا.

عندما تسلمت ديوان هذه الشاعرة الموهوبة بعنوان «هطول» كنت منشغلا بأعمال كثيرة، وبقراءة سريعة وجدته يزخر بغزارة المفردات وجمال الصور في العديد من القصائد التي تجسد أحاسيس ومشاعر إنسانية صادقة جعلتني أواصل القراءة لأشبع نهمي عبر تلك النقلات الممزوجة تارة بالحرمان وأخرى بالآهات الوجدانية والتي يظهر القلق الآزلي واضحا عبر حروفها وقد أوجدت منها الشاعرة قوالب شعرية تشد انتباه المتلقي في منحناها الكلاسيكي والرومانسي على حد سواء، حتى بدأت لي بعض النصوص أكثر إشعاعا، وثراء خاصة العاطفية منها والتي تدل على تمكنها من لغتها وسبر أغوارها وهذا ليس بغريب على شاعرة مكنتها دراستها في النجف الأشرف بإعطائها طاقة تعبيريه انعكست إيجابا على تجربتها الشعرية، ناهيك عن معاناتها التي أسهمت بدور لا يستهان به في هذا التدفق الذي يلامس الوجدان لا تكلف فيه ولا غموض لأنه يأتي بالسليقة فترى فيه سلاسة الأسلوب وصدق العاطفة وجمال السبك فتأخذ بعضها من الأندلسيات طراوة اللغة ومن العذرية نفحاتها واكثر ما يهمني في هذا الديوان هي صورها الشعرية التي جاءت منسابة رقة وجمالا في اكثر إيحاءاتها ودلالتها النفسية التي اطلقت الشاعرة لها العنان حتى في حالات لألم.

وتأتي قصائدها «نبوءة الشعر، وجهة البوح، جسد القصيدة، رقصة على الغياب، على مشارف العزلة، نبوءة الطين، روح مهاجرة وغيرها» ففي قصيدتها وجهة البوح تفصح عن قدرتها على التعبير بطلاقة وصدق متجاوزة التكلف والغموض فعبر هذه الأبيات تأخذ لغتها في التجلي عبر قولها:

قَلبي رِسَالةُ عرَّافٍ بلا وَطنٍ

ضجَّ الحنينُ بهِ، والشَّوقُ يستعِرُ

تَظلُّ غَيماتُهُ الأولى تُحَدِّثُنِي

عن لجَّةِ الماءِ للمعنى فينصهِرُ

مِسكٌ إذا فَاحَ بالأرجاءِ عتَّقَها

يهفو لها الطَّيرُ بالآصالِ، والشَّجَرُ

ونسمةٌ من هبوبِ الريحِ تُوصِلُنِي

نحو التَّجلِّي، ومنها تُرصَدُ الفِكَرُ

إن فَاتني العُمْرُ، لا آمالَ تُرجعُهُ

وإن نَسيتُ، جدارُ الروحِ يَحتضِرُ

لكن المعناة تبرز واضحة عبر أبياتها هذه من قصيدتها غربة فتتدفق حرارة وأسى:

ناولتني جمر المحبة واللظى

رفقا بصدر يكتوي بالنار

ارفق بقلب من هواه متيم

يمضي وحيدا في ربا التذكار

تبرز هذه الأبيات من قصيدتها نبوءة الطين موشية بالمعاني الرقاق تعبر عن الحب كعامل حاسم ومتين في العلاقات الإنسانية يقود إلى بر الأمان فيأتي البيت الأخير كومضة اشراق تضئ للساري طريقه:

نِدَاءَاتٌ سَرَتْ ليلًا مُلَبِيَّةً

إذا نَطَقَتْ رُؤاهَا اليومَ تُغنينِي

لِيَمنَحَ حرفيَ المَخبُوءَ مِن أَلَقٍ

إِلى حدٍّ يُنَاغِمُنِي كَتِشْرِينِ

وماءٍ تجمَعُ الأيامُ لهفتَهُ

سبيلًا بامتدادِ العمقِ يروينِي

زمانٌ يُلهِبُ الذِّكرى فيرجعُهَا

إلى رُوحي كآياتٍ من اللِّينِ

سَلامُ الله إِذْ يَحنُو على وطَنِي

متى ما عادَ هذا الحُبُّ يَكفِينِي

عبر هذا النفس الشعري المتناغم بموسيقاه تبدع ريشتها الفنية هذا النص من قصيدتها طيف خفي فيبدو كلوحة سحرية يتناغم فيها فن الخيال:

على شاطئ الحب نبض هنا

حبيب وما أخفت الذكريات

اعوذ إليه.

كرسم يناغم فن الخيال

فعند الزوايا بركن مضى

وبين ارتباك الحقيقة فيه

تغازل ريشته المبتدأ

وتمحو المنافد ألوانها

يمد يديه بكل انتماء

إلى تمتمات وسحر هنا

تعيد المجاز

إلى عمق عهدك

فيلتف وقتا

ومن شرفة الحلم

يبدو جليا

عبر هذه الأسئلة الممزوجة بالحيرة تارة والحزن تارة أخرى تأخذنا عقيلة الربح إلى نصها هذا الذي تحول فيه الصراع إلى دراما أخذت بين مد وجزر وشعور دافق بالمرارة إنه إحساس هائل بالغربة:

ما بالُ قلبيَ للهوى دفَّاقُ؟!

فتَنَ الضياءَ بنظرةٍ مُشتَاقَا

ما بالُ حزنِيَ غارقٌ في وحدَتِي؟

تركَ الشُّعُورَ بلحظةٍ سبَّاقَا

حيرى ألملمُ فكرتِي وأُعِيدُها

ولها التَّصدِّي يَفتحُ الآفاقَا

في لجَّةِ الإبحارِ كانت عَبرَةٌ

هزَّتْ لها أركانيَا الأعماقَا

وأنا أجدِّفُ للوصولِ بوجهتي

والرُّوح تشهقُ في المدى إغرَاقَا

يا للمسافاتِ البعيدةِ قد أتَتْ

والعُمْرُ من فرْطِ الأسى قد ضاقَا

وعلى مشارفِ عُزلَتِي كربٌ جَثَا

والدمعُ نزْفٌ أنهَكَ الأحداقَا:

ولنبتعد عن دوائر الحزن والإحباطات عند عقيلة الربح لنقف على هذا النفس الرومانسي الحالم الذي يشكل بارقة أمل في هذه الأحرف الجميلة صياغة ومعنى فيأتي همس هذا الجمال رائعا مخترقا الآذان فيحط في القلوب بصدق ونفاذ:

هو الجمالُ الذي ترْقَى مفاتنُهُ

ياقُوتة جُمعتْ؛ كي تُنحتَ الدُرَرُ

إذا سَرَتْ أحرفي في نبضِ قافيتي

تراقص اللَّحنُ والأنغامُ والوتَرُ

0

غصنٌ يميسٌ وأزهارٌ تخامِرُني

بنفحةٍ من ثراءِ الخصْبِ تُبتَكَرُ

هو الطريقُ الذي ما عدتُ أسلُكُهُ

عَهدًا سأبقى كما ليلاهُ تنتظِرُ

قصيدتها ورود إلى المنفى تعبر عن هذا الارتباط الأزلي بين الشاعرة والأرض إنه شعور لا يستطيع أي كائن حي الانفكاك منه فالحنين يشده دائما إلى مرابع الصبا ومهد الطفولة فما بالك بالشعراء الذين يغرسون في قلوبنا حب الأوطان والحنين إليها عبر نصوصهم الشعرية الصادقة فالأوطان عندهم أكثر من قصيدة تكتب أو نشيد يغنى أنه المأوى والامتداد الإنساني عبر الزمن فيشد شاعرتنا الخيال إلى زارة البحرين تلك المدينة المندثرة قائلة:

هوى موطني بين الرياح له بدا

شراع سيبقيه التجلي منمنما

ترف فراشات المدار بجنحها

وتصعد بين النور شوقا إلى السما

بصوت حزين حين أنهكها الصدى

كأن سكارى التائهين لها أرتمى

وفي منتهى الوادي المطل على المني

ثراء طهور شد مجدك قوما

أيا دوحة الشعر المقطر بالندى

ستروي نبوءات التلاوة زمزما

ويا جنة الشطآن عودي لتنهلي

فهذا رواء العاشقين بهم همى

والشعر عند شاعرتنا هو كائن متمرد على واقع محبط لكسر قوقعة الانغلاق والعزلة والانطلاق إلى أفاق رحبة في هذا المدار وقد جاءت التشبيهات والصور في هذه الابيات متألقة بجمالها تميل إلى السهولة والبعد عن التكلف عبر جمال الاتساق والتناغم الموسيقي:

ما الشعر إلاعاشق متمرد

كسر القيود وحطم الأسوارا

والشعر فينا صرخة مخبوءة

بين الضلوع يعاند الأوتارا

ويحط من رحل القصيد بفنه

فيعود نسجا للهوى أسحارا

كفراشة غناء تفترش المدى

ستعود عند سماعها الأذكارا

امرر بعطر للحياة وفض بها

واسق الوجود وعانق الأزهار

هذه إطلالة سريعة على «ديوان هطول للشاعرة عقيلة محمد آل ربح» من مواليد العوامية - القطيف - السعودية نتمنى أن تفاجئنا بإصارها الثاني مستقبلا.