إنسانية الأديب؛ إنعام كجه جي أنموذجًا
أحببتها مُنذ أن أبكتني في خاتمة روايتها «طشاري»، ومن عاداتي أن أمشي نحو الحبيب دون تكلفٍ، بهذه الروح حضرتُ استضافتها بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي - إثراء - وكما هي قناعتي في لقاء كبار الكُتاب أن أقرأ أعمالهم أو بعضها قبل اللقاء، لنخلق جسرًا يرسو بنا على شاطئ الكلام الذي هو فِكرٌ محض. صحافية وروائية برغم الهجرة وألم الفراق، لازالت تنضح نضارة وبهاء، تلمس فيها تلك الروح الوطنية المسافرة على المدى في أعمالها الأدبية، أصدرت «سواقي القلوب»، «الحفيدة الأميركية»، «طشّاري»، و» النبيذة» وقصص قصيرة «بلاد الطاخ طاخ» اختيرت الروايات الثلاث الأخيرة في القوائم القصيرة لجائزة «البوكر» العربية، تقيم في باريس، حاصلة على الدكتوراة في تاريخ الصحافة من جامعة السوربون، عملت مديرة لتحرير عدد من المجلات العربية المهاجرة، وتكتب عموداً أسبوعياً في صحيفة الشرق الأوسط، هي الدكتورة إنعام كجه جي.
رجاء البوعلي وإنعام كجه جي على هامش اللقاء
رجاء البوعلي وإنعام كجه جي على هامش اللقاء
إنسانية الأديب في لغته:
في حوارها الثقافي، تجد حديثًا خبيرًا وعفويًا شفيفًا وقيميًا عالي الجودة، لا يتكلمه إلا كُبار الأدب والفكر، أولئك الذين لا يتورعون عن إبداء آرائهم متحررين من أغلالٍ كثيرة، يقدمون صورة بهية للأديب المثقف الحر، الذي تستفزه القضية الإنسانية، وتدفعه لنسج تُحف أدبية كشاهدٍ على العصر، هذه هي أديبتنا العراقية، التي صنعت من المآساة تُحفة تُمتع بها قارئها بقدر ما توجعه بوخزها، فكأنما كل حرفٍ في الرواية خيط من خيوط الأحجية، لايُستغنى عنه، ولا تكتمل التحفة إلا به، فرواية مثل «طشاري «تخز قلبك لمجرد النطق بعنوانها «طشاري» كيف تطشرت الأرض وانتفضت مكنوناتها وتبعثرت دماء الإنسان عليها، غاب من غاب وهاجر من هاجر وغُيب من غُيب، ونُثر رماد الذين وصوا بنثر رمادهم في الوزيرية، تقول كجه جي، لا! لاتقول بل تلسعك بحروفها: «قال إن علينا إحراق جثته ونثر رماده في ممرات المقبرة الإنجليزية في الوزيرية، غير بعيد عن أكاديمية الفنون وفي حين اتسعت عينا آدم من الفزع، شعرت بشيء من الراحة لأن الحرق أقل تكلفة من الدفن، لكن أيّا منا لم يفهم لماذا أراد حبيبنا المحتضر تعذيبنا بهذه الوصية السخيفة. أي وزيرية وأي هراء «.
المأساة العراقية بوصفها أدبًا عالميًا:
يقول جبران خليل جبران: «المأساة الحقيقية هي موت حلم داخل الإنسان وهو حي». فاقرأ رواية «طشاري» لتُدهشك بفكرة المقبرة الإلكترونية من العمة وردية والمُنسقة والمُهندسة على يد الطفل إسكندر، فكأن الإنسان الضحية الأولى للمأساة يأس من لقاء ذويه ومنسوبي أرضه في الحياة الواقعية فخادع نفسه وأوهمها بلقاء مُتخيل، يضم الناس مُمددين في قبورهم، التي ليست إلا صورًا وأسماء على شاشة إلكترونية، غير الانقلاب حدث في النهاية؛ طلبت كلثوم من إسكندر إلغاء قبرها الإلكتروني بحجة أنها تريد قبرًا واقعيا، ثم توالت الانسحابات فصُدم الولد! هكذا نجحت الساردة في اصطحاب قارئها برحلة إنسانية على مدى تصاعد الحدث المأساوي حتى بلوغه الذروة ثم انهيار الأحداث، لتصور في الجزء الأخير انهيار بلد عظيم يحتضن تاريخًا ضاربًا في العمق وحضارة قديمة لم ينقطع اتصالها بالحاضر. لقد فعلت الرواية فعلتها، فبرغم أنني لم أزر العراق إلى الآن سوى مرة واحدة عام 1990 قُبيل حرب الخليج لكنها وضعتني في المشهد وأبكتني في آخر صفحة.
أما في مجموعتها القصصية «بلاد الطاخ طاخ «تكتب: «عرفت أنني أمام قصة سأكتبها ذات يوم، فقد بزغت ذكرى موازية في رأسي، تخصني ولا تخص هوارية «تقصد صورة سي الهواري المركونة خلف باب الحمام مع الكراكيب، أرعبتها ومنذ تلك الصدمة احتبست مياهها بجسدها! يا للهول! هكذا تعرض الروائية حالة الخوف التي تتلبس الإنسان بشكل يتجاوز حدود زمنه، فيصبح مرضًا جسديًا إثر صدمة نفسية تتحول إلى خوفٍ عابرٍ للزمن، كما حدث مع هوارية! وهذا شاهد على تفرد الروائية في توظيف مأساة الأحداث اليومية التي تبدو عادية لإبراز قضايا كبرى تتلبس الإنسان وتسجنه بداخلها وتؤذيه. أما عن الخوف وهو أحد مُخرجات المأساة، فقصة «عارية في الوزيرية «تقدم احتجاجًا متأخرًا وطموحًا مُحبطًا، فكأنها تصور أحلام المبدعين مُحترقة كي تحصل على جواز عبور ثم بقاء، وهذا الحس الملازم لأدب كجه جي مُبهر وذكي حيث تقدم الآمال والأحلام في أقصى درجاتها من الانهيار والاحتراق الذي يعطل الحياة.
لايمكن أن تكون أديبًا وروائيًا، دون أن تعبر على أعمال كجه جي، لا أقول ذلك مجاملة، بل لأن تجربتي لقراءة أدبها أضافت لي على المستوى الإبداعي والإنساني والنوعي. هي سيدة نبيلة ومواطنة مُخلصة للنهرين، شدها الحنين وألهمتها الهجرة. سألتها بين الجمهور: كشفتِ في لقاءات متعددة بأن دافعك لكتابة الرواية العراقية، جاء تكفيرًا عن فعل الهجرة، والآن بعد هذا النجاح الكبير، هل تشعرين أنكِ وفيتِ الدّين؟ اغرورقت عيناها، قائلة: كيف أوفي الوطن حقه؟! ظننت أن غبارًا دخل عيني أو عينها، غير أن صديقاتي شاكسنني بعد اللقاء: لماذا أبكيتِ المرأة؟! فتأكدت أن عيوني لم يدخلها غبار، وتأكدت أنني مثلها أستطيع أن ألسع بالكلام.