آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

سيرة الرَّوحِ والرَّيحان… الراحلة خادمة المنبر الحسيني الحاجة ”فهيمة الجشي“

ألباب الخليفة

«1»

انحدرت فهيمة الجشي من سلالة طيبة لأسرة كريمة ونبيلة، والدتها طيبة بنت الشيخ علي غنام، ووالدها الحاج منصور محمد علي الجشي، امتهن تجارة اللؤلؤ متنقلا بين القطيف وتاروت والبحرين والهند لبيعها، استأثرت القضية الحسينية باهتمامه، وطغت على وجدانه، فتفجرت قريحته الشعرية عن ديوان مراثي في أهل البيت ، ثقة في مشروعيتها السماوية ومحبة وموالاة لشخوصها وعظيم مصابهم؛ مما تتفجع له الروح وتدمى، ومن هذا الجذر تبرعمت بناته، فهيمة وأخواتها.

مثل الوردات الصغيرات المبللات بعبق المسؤولية الدينية في تمثل نماذج وعميدات البيت الهاشمي: السيدة زينب والرباب وأم البنين كنائحات أوليات على هذا الحدث وتثبيت هويتهن الدينية الأنثوية ضمن مسارها الصحيح، فاتخذن حس المبادرة والخدمة لجمهرة النساء في منطقة تاروت، عبر إقامة مأتمهن الحسيني المتكامل الخاص بهن في شهري محرم وصفر، وما يقع خارج نطاق هذين الشهرين، وفيه مناسبات معظمة، تنتظره المؤمنات وتشرئب لحضوره، فيزكو البيت برائحة الحطب والخشب المحروق المعد لطهي الطعام في قدور كبيرة وتوزيعه لقاصدات المأتم وتذوق لذة التعب والعرق المتساقط في سد لهفة الجموع المحتشدة، والمكتظة لتناول بركة الطعام المطبوخ تحت وَابلٍ مَطريّ ينبعث منه نور الحسين ويشع.

واكب مأتمهن مجريات التطوير في بنية الإحياء العاشورائي ومستجداته، إذ اندمج بصبغة مسرحية تعيد تمثيل حوادث الواقعة بناء على قالبها وبحسب خصوصية كل مناسبة وأبطالها المُبرزِّين فيها، يتم التعاطي والاستمداد وإسناد كلٌّ إلى مهمته ودوره في التمثيل، لتأثيراته الوجدانية العميقة باعتبار تَقاطع المُجّسَّد مع الجانب الحسي الإنساني، وتناغمه مع مدركاته اليسيرة، وكُنَّ أول المنتهجات والراسمات معالم هذا المسار التمثيلي وإشعال فتيله في منطقتهن.

وآثرت ”فهيمة“ تقديم دور السيدة زينب ، وعدم الجنوح إلى غيره، متلبسّة شخصيتها فتلتهب بحرارة منطقها وخطابها ومحادثاتها مع أخيها الحسين ، فكانت تحفظها كاملة، وتستحضرها كل عام، ولعلّ هذا الالتصاق والاقتداء بالوتد الزينبيّ منح تكوينها الشخصي القوة والصلابة.

وفي يوم القاسم ، يدرن بالصواني والشموع اللاهبة، حتى صغار العائلة إناثا وذكورا، يسمحن لهم بخوض هذا العمل في فضاء وُحدوي عجيب، كُلٌّ يترقبه ويجنح به في مخيلته، ولوعيهنّ المبكر الفطري بضرورات التنشئة الحسينية للأجيال والتعويد المبكر في استلام الموروث الديني ورفع مشاعل الشخصيات الكربلائية لما لها من خطوط تأصيلية ونهج حياتي اقتدائي منقذ سيدركونه ويعودون إليه لاحقاً.

استقطب مأتمهن كبريات الملايات الشهيرات للمشاركة في القراءة الحسينية، أو متعاونات أخريات ممن يرغبن في المساهمة، يضاف إلى مشاركتهن الكثيرة في العزاء نفسه، بمتطلباته، من ”نعي ولطميات ورواية المقتل“. وبقي محافظا على زخم الإحياء المتتالي هذا حتى بعد زواجهن وانتقالهن للسكن في القطيف.

وفي المناخ هذا عجنت شخصية فهيمة الجشي، وتَفتّقَّت موهبتها عن صوت شجي فيه بحَّة جماليّة نَافذة تَخلبُ أذن المتلقي، وتهيمن عليه، وراحت قريحتها تجود في التأليف الشعري الذي أبت أن تخلد فيه مجدا غير متصل بمجد الحسين ، وطبيعته المجلية لقلبها، فكانت تَمتح فيما دونته مما يقارب العشرين ديوانا شعريا من نوع المراثي، في مجلدين اثنين كبيرين، حمل الأول عنوان ”ثمرات الفؤاد“ وكله رثاء ورداديات حول أهل البيت ، بلغت أجزاءه ثلاثة عشر جزءا، والثاني بعنوان ”رثاء الأمجاد“ تضمّن في محتواه سيرة أهل البيت بنظم شعري، في سبعة أجزاء، من مخزون سليقتها وفطرتها وذائقتها، ومما يتيحه هذا الارتباط العلائقي الحسيني حد الذوبان والامتزاج، فَتَوَهَّجَ في مضامينها المغتسلة بهذا الشغف لتأتي مسترسلة عفوية بلا مشقة، وهي تتلبس الفكرة والحدث التاريخي المفجع.

«2»

تعلمت القراءة بين أخواتها و”الكتاتيب“ في تاروت، واستهوتها قراءة دواوين الشعر الشعبي الحسيني، ثم اقترنت بِالحاج ”محمد صالح آل جمعة“ من العوائل القطيفية الوجيهة في حسبها ونسبها، هاجر أبوه إلى العراق لطلب العلم والدراسة الدينية، ومن ذوي المكنة والثراء، متنقلة معه بين المدن، بغداد والبصرة والقطيف، ولأنه وباعتبار آباءه وأجداده ذوي نزعة دينية وحسّ إيماني عال بدلالة عنايتهم الخاصة بإنشاء الحسينيات والمآتم والأوقاف عليها، ما يُفسّر كثرة وجودها في قرى القطيف والبحرين والبصرة والإحساء، تطبّع مثلهم بالميول نفسها، فكان خير ساند ومعين لها في نقلات حياتها ومراحلها لإتمام تلك العلقة المغروسة في عمق مسيرتها ويومياتها منذ الطفولة في ذاك البيت التاروتي الحاضن لبواكير محبتها الجمة لأهل البيت ، إذ مهّد لها السبل لإقامة مأتمها الدوري ومجلسها الحسيني المعتاد في منطقة الكاظمية حيث أقاما وسكنا، كما حثّها في تلك الفترة، للالتحاق بفصول محو الأمية أول وثاني وثالث ابتدائي في مدرسة الزهراء الدينية في الكاظمية، وشرع باقتناء ما كان يصدر من مطبوعات الكتب والمجلات والصحف اليومية آنذاك؛ لتتمَّرن هي وبواسطتها على تطوير قدرتها القرائية، وفي جعلها في حالة تعلّم وغرف مستمر لما يُستجد في الميادين والأفضية الثقافية،

فانخرطت في ارتياد المجالس الحسينية وفي فضائها تعلمّت - عبر المحاكاة والتلقي - النسق والطريقة العراقية الحسينية وبرعت فيها، وفي نقل تجربتها عندما عادت إلى مجتمعها القطيفي، لمن تقصدها للإفادة من ثراء تجربتها وعمقها.

ولما امتازت به من موهبة فطرية ودافع ذاتي أصيل ظل يغذّيها بحافزها الخاص الذي يلح عليها في التثقف، والانفعال بالمؤثرات الخارجية، وهي تحرك ضميرها وإحساسها، كشاعرة شاملة وواسعة القدرات والإمكانات، فتسرح أحيانا في كتابات شعرية هامة وبديعة ومطولة تمس تحولات الماضي والحاضر وقيم البساطة وبؤس المال وما يجلبه من أخلاقيات زائفة ضارة، لكنها بقيت وفية لمرجعيتها العاشورائية في النظم، فبعد استقرارها في وطنها السعودية، أنشأت حسينية من مالها الخاص، وواظبت حتى توفيت على القراءة فيها بنفس الهمة، تتألق كتبها بين يديها ومفرداتها تتنافس مراهنة على بيت الجنة الوعد الحسيني لمن قال فيهم بيت شعر، أليس وعد الحسين هو وعد الله تعالى.

«3»

أدت واجباتها الأمومية تجاه فَلذَّات أكبادها العشرة ما بين أبناء وبنات، وبحسب مقتضيات الأحوال المتغيرة ونوائبه، تحملت بمفردها تربية أبنائها اليتامى، ومجابهة مشكلاتهم وتلبية احتياجاتهم، ليجدوا مكانهم الملائم في العالم، حفزتهم لإكمال الدراسة الأكاديمية وتَسّنم مراكز مرموقة في مختلف الحقول المعرفية، وصاغت معالمهم وفق القيم الإسلامية الأصيلة، وفي غَمْرةِ الحق والواجب حرصت على متابعة هذين الينبوعين وضمان جريانهما في نفوس أبنائها، بصبر عال اختزلت الحنان والعطف والإصرار في بوتقة أمومتها الصامدة، ومشهد مرآتها العاكس لصور الإيمان والأمل بالحياة. حسمت مقامها وهي تتفضل الألطاف الإلهية الرّاشحة، ”مَن ضمَّ يتيمًا لَهُ أو لِغيرِهِ حتَّى يغنيَهُ اللَّهُ عنهُ وَجبت لَه الجنَّةُ“.

«4»

كريمة ومولعة بمحبة الضيوف، كممارسة ومفهوم قيميّ رفيع، فتنفتح عليهم وتستقبلهم بعينيها وحركة جسدها وابتسامتها البشوشة وألفاظها الترحيبية، بكل آليات وطرق التواصل وأدبياته في هذا المضمار، فتعطي من وقتها ومالها، وتمد لهم الولائم، بيد مشرعة للعطاء تجمع العائلة وأفرادها وأقاربها ومعارفها، وتفتقدهم واحدا بعد آخر، تُقدِّم لهم الهدايا المالية والعينية بكل مناسبة، وتعطي من مؤونتها وطعامها، إلى حد الإيثار والتفاني في تجسيد شكل علاقتها بالآخرين، وتَجَلٍّ من تجليات شخصيتها الجامعة المُتقوِّمة برغبة إدامة المحبة على امتداد حياتها الحافلة بتجارب وأحداث ومناسبات التزمت بهذا الجانب العقدي الإنساني، بمقدار ما يؤهلها لمحبته تعالى ”إن الله كريم يحب الكرم“.

«5»

على نصيب وافر بدت من حسن الطباع والسجايا لم تستجلب أي عداوة، بل كسبت محبة الجميع واحترامهم، صادقة وفية باذلة للمعروف ورحيمة رؤوفة، متسامحة، تجد سعادتها في سعادة من حولها، تؤدي واجباتها المجتمعية، وتحمل همومه، وهموم العالم وتتأثر بصراعاته، سلكت وفق مبادئ أخلاقية، واستطاعت ببصيرتها الدقيقة توظيفها في مراحل حياتها العامرة بالفضائل والإنجازات، والمُغتنية بأفعال الخير البديعة.

«6»

تَيمَّها الارتحال وشَدّ أزمِّة المَطايا بالسفر نحو تحقيق وجودها المعنوي الجواني وتَلمّس مداخله، الذي يأبى الاكتمال إلا بأداء فريضة الحج والعمرة والزيارة النبوية والمقامات المقدسة في العراق وإيران وسوريا، تتفاعل مع معمارها المادي والروحي، بتكرار مستمر لتأثيرها في ارتقاء عوالم المعنى ومعاينة عروجها فيه، حنينها إلى زيارة المقدسات بقي شغلها الشاغل ومثقال حياتها التي تتخلخل من دونه.

وها هي ترحل بغصة فَقَد، تقُرح قلوب من حولها.. لكنها ترحل خفيفة كريش الحمامات الطائرة برَّوحِ ورَّيحان إلى جنة النعيم.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
حياة ال جمعه
[ القطيف ]: 6 / 12 / 2023م - 2:20 م
شكرا لك ام على مقال رائع
2
عارف الجشي
[ القطيف ]: 6 / 12 / 2023م - 2:33 م
برعت الأستاذة الفاضلة لباب في وصف الإحساس الديني والتربوي والاجتماعي لفترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى وذلك بوصفها للأحداث والشعائر الدينية التي كانت تجري في البيت الكبير فى تاروت كما لو كانت حاضرة ومتنفسة ذلك العبق الجميل
كما نقلت سيرة الحاجة فهيمة رحمة الله تعالى عليها باسلوب أدبي رائع تتفاعل معه ذاكرة الماضى وروح المستقبل
ونقلت ما جرى من أحداث وحياة الحاجة فهيمة بإسلوب شيق متواصل الجمال ومتعاقب الإبداع
متمنيا للأساتذة لباب كاظم كل التوفيق