ويطعمون الطعام على حبه
أودع الله عز وجل في الإنسان مجموعة من الغرائز المجبول عليها منذ ولادته، ومن تلك الغرائز المحركة له هي غريزة حب المال والسعي من أجل تحصيله، وذلك أنه يمتلك تصورا واضحا بأن المال عصب الحياة والمؤمن لمستلزمات الحياة الكريمة، فحياة الحرمان من مقومات الحياة تفقده الاتزان الفكري والنفسي وتصيبه بالشلل والتحطم، فإسهام الإنسان في عمارة الأرض وتذليل الصعاب لتوفير حياة هانئة يتم من خلال توظيف الحركة المالية وتدويره في القطاعات والجوانب المختلفة لحياته.
وقد يطرح تساؤل يتعلق بالنظرة الدينية للمال ونحن نستعرض الكثير من الآيات الكريمة المتحدثة عن مخاطر وقع فيها الإنسان بسبب حبه للمال والتصاقه به، بل وأصبحت بعض الشخصيات المذكورة في القرآن الكريم كقارون - مثلا - رمزا للهلاك بسبب حب المال، كما أن صنع المعروف وتقديم الخيرات والمساعدة للفقراء كما في قصة أصحاب البستان، قد تم قطعه عن الفقراء والبسطاء في معيشتهم بسبب استيلاء حب المال على قلوب أبناء صاحب البستان الراحل عن الحياة، فهل حب المال يخضع للنظرة الدينية السلبية له وبالتالي هناك دعوة للحذر من العمل على توفيره وجمعه، أم أنه غريزة يلازم حبه قلب الإنسان وبالتالي لا استغناء ولا انفكاك عنه؟!
قد يقع اللبس والاشتباه في النظرة الدينية للمال وقد جعلته غريزة تتغلغل في وجدان وكينونة فكر الإنسان، والحقيقة أن جعله غريزة هو لطف من الله تعالى يتحرك الفرد من خلالها لتأمين الموارد والاحتياجات الشخصية له ولتوفير حياة كريمة لأسرته، فهذه الغريزة تقع في دائرة المدح والثناء كيف ولولاها لتقاعس الإنسان عن العمل ودائرة الإنتاج المجتمعي، ولكن هذه الغريزة كبقية الغرائز «غريزة حب النفس والجنسية وغيرها» لها حد طبيعي تسير فيه وهو الإشباع بالقدر المعقول دون التجاوز إلى خط الانفلات والإسراف، وما يتصور من ذم لغريزة حب المال هو لتسليطها الضوء على ما يقع من أضرار إن تجاوز بها الفرد دائرة الوسيلة والآلية إلى حب يصل إلى دائرة الجنون والأسر، فيتحول المال من مقوم لتحقيق الأهداف إلى الغاية والرغبة في كنزه وجمعه؛ ليصبح الإنسان - في الحقيقة - حارسا له يسهر على حفظه من النقصان، وهذا ما يورث المرء مجموعة من الأمراض الأخلاقية بسبب ابتلائه بآفة حب المال والحرص على عدم صرفه في موارد الاحتياج، فيمرض بالبخل والأنانية والتكبر واستقزام الفقراء والتعالي عليهم، والنتيجة المتحصلة أن غريزة المال لطف إلهي يساعد الإنسان على السعي الحثيث والمثابر من أجل العمل وتحريك قدراته ليكون عضوا فعالا ونشطا في حركة الإنجاز المجتمعي، وأما المذموم فيها فهو تجاوز الحد وطغيان حب المال على النفس وتحوله لمجرد حارس له.
ويحدثنا القرآن الكريم عن شخصيات سمت في عالم العطاء والتخلص من أغلال الحب السلبي للمال، فلم يكن في حياتهم إلا مجرد وسيلة لتوفير مقومات ومستلزمات الحياة المناسبة، وأما ما فاض عن احتياجاتهم فيعملون من خلاله على بلسمة آلام المحتاجين والتخفيف عن همومهم ما استطاعوا، وتلك المساندة عندهم لا تقتصر على الجانب المادي بل تمتد إلى الجانب المعنوي وعطاء الكلمة الرقيقة والحانية، والتي تنتشلهم من بؤرة الحرمان الوجداني فيستشعرون الأمان والطمأنينة تسكن أرواحهم بعد أن امتدت إليهم قلوب الرحمة والشفقة، وتلك المساعدة المالية لا تؤثر على أساسيات نفقة الفرد على نفسه وأسرته، وإنما هي مما فضل وبقي يتقرب به إلى رب العباد ويطلب منه تعالى العفو بما خفف به عن المحتاجين، وإن العطاء والكرم ليس على درجة واحدة بل هي درجات يتفاضل ويتمايز بها أهل العطاء، وإن أعلى تلك الدرجات هي الإيثار وتقديم حاجة الفقير على أنفسهم مع ما بهم من خصاصة وحاجة ولكنهم يقدمونه عليهم، وهكذا كان البيت النوراني لفاطمة الزهراء مصدر عطاء ورأفة بحال المحتاجين، فالعاقل من قدم لرصيده الأخروي وادخر له بما ينفق في سبيل الله تعالى وأوجه الخير المتنوعة.