آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

أعقلُ الناسِ ما لهم وما عليهم

ناجي وهب الفرج *

جرتْ عادةُ البعضِ مِن الناسِ أَنْ يروا أنفسهم أنهم فقط مِمَن يمتلكون الحقيقةَ المطلقةَ دُونَ سواهم ولا يرون شيئًا أمامهم سوى ذواتهم.

فمتَّى ما وصل الإنسانُ إلى مثل هذه القناعة؛ فإنه يضيقُ ذرعًا بالرأي المخالف حتى ولو كان هذا الرأي ناهضًا وصحيحًا وهو بسلوكه هذا يحرمُ نفسهُ وحتى يحجبَ عَنْ غيرهِ الفائدةَ المرجوةَ التي سوف يَعُمُّ نفعها وتطالهُ هو نفسه.

إنَّ الخبرة التراكمية التي تُبْنى مع الفرد ما هي إلا نتاج تجارب؛ منها ما كان ناجحًا وناميًا ومنها ما كان فاشلًا ومُحْبِطًا، فتتكون لديه مع مرور الزمن معرفةٌ بما هو صالح ونافع لحل مشكلةٍ هنا ومعضلة هناك.

فقد ورد عن أمير المؤمنين عَلِيٍّ أنهُ قال: «أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ عُقُوْلَ النَّاسِ إِلَىْ عَقْلِهِ»

فإنه جلَّ شأنه قد سخّر للإنسانِ العديدَ مِن النِّعم التي لا تُعْدُّ ولا تُحْصَىْ، ويعتمد تقديره وحفظه لها بكيفية استيعابه لما يدور حوله، وانتهاجه لأسلوب التدبير والمداراة في كيفية التّعامل مع الذين يعيشون معه، ويُقاس ذلك ويتضح بمقدار ما يمتلكه من عقلٍ متزنٍ ومراس وجدّية، ونظرة بعيدة في عواقب الأمور ومآلها، وعدم أخذه الأمور بسفاهة عقلٍ ولا مبالاة، وممكن أن نطلق على من تتوفّر فيه هذه الصّفات بـ «أعقل النَّاس»، فإذن «أعقل النَّاس» هو الذي لا يأخذ الأمور ويتصرّف بها على مزاجه، بل الذي يميّز بين الصواب والخطأ، ويمحِّص الحقّ عن الباطل، ولا يتجاوز حدود الله تعالى، وهذا يتأتى بكيفية استعماله وتقديره للنّعمة التي منَّ بها عليه خالقه سبحانه، وهي: نعمة العقل، والذي أصبح بسببها «أعقل النَّاس»، ومؤدى ذلك أن يصبح هذا العبد قريبًا من الله جلّ جلاله، فقد روي عن أمير المؤمنين عَلِيّ بن أبي طالب من كلام له في هذا الشَّأن، حيث قال: ”أعقل النَّاس أقربهم إلى الله سبحانه“.

ومن مصاديق «أعقل الناس»، هي ابتعاده عن الأشياء الدّنيَّة بكافة أشكالها وصورها، والتي تحرفه عن مساره الصَّحيح، فلا يقربها ويكون مترفّعًا عنها بقدر ما يمتلكه من قوّة إيمانيَّة وعقليَّة، فروي عن الإمام عَلِيّ بن أبي طالب - عليه السَّلَام - أنَّه قال: ”أَعْقَلُ النَّاسِ أَبْعَدَهُمْ عَنْ كُلِّ دَنيَّةٍ“.

وحتى يَكُونَ المرءُ أعقلَ الناسِ لا بُدَّ أَنْ تَبْرُزَ فيه ميزة خاصَّة به وهي ميزة تجعله متحملًا لما يصدر من الآخرين تِجَاهِهِ من سلبيّات وسوء تصرّف، ولا يتعصَّب ويتسرع لما بذر منهم، ويكون متزنًا ولا يصدر منه شيء تجاههم، ولا يسلك مسلكهم في التّعامل معه، وتكون سِمَة الصمت سِمَتَهُ؛ فبصمته هذا قد قام بمعالجتهم معالجة نفسيّة متعقلة تؤدي ثمارها ومبتغاها، ومما جاء عن سيِّد الموحّدين - عليه السَّلَام - في هذا المقام قوله: ”أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ لَا يَتَجَاوَزُ الصَّمْتُ فِيْ عُقُوْبَةِ الْجُهَّالِ“.

قَدْ يعيشُ الإنْسَانُ وحده في غابة من الغابات دون أن يتعامل ويتصل مع أحد. حينئذٍ سيعيش حياة تشابه ما تسلكه الحيوانات من سلوك ووحشية. على العكس ممن يشعر أنّه بحاجة ماسة إلى الآخرين، وأنه لا بد أن يتعاون معهم. واستئناسه وحاجته إلى أن يستشير غيره في أموره. فالمشورة هي صغيرة في لفظها، ولكنها كبيرة في معناها، ومغزاها، ونتائجها.

إنَّ من أبرز مقوّمات الشعوب التي تنشد التقدم هي أنها مجتمعات تتبنى العمل الجمعي، والاستشارة الدائمة فيما بين أفرادها.

وهذا ما نراهُ متجسدًا وملموسًا في وطننا الغالي وفي توجهات حكومتنا وقيادتنا الرشيدة في تبني النظام المؤسسي في تصنيع وإخراج القرارات التي تمر عبر القنوات التخصصية الاستشارية سواءً كان ذلك على المستوى الشعبي ومنصته مجلس الشورى أو على المستوى الحكومي كهيئة الخبراء في مجلس الوزراء، وهذا ما نجده مطبقًا في كافة مكونات ومفاصل الدولة والتي يتسم مسارها بأنه يمثَّل نهجَ الاتزان في اتخاذ القرارات ذات الجدوى بعيدة المدى والخاضعة باستمرار للمراجعة والتغذية الراجعة «Feedback» والتي هي مجموعة معلومات يتلقاها الفرد عن أدائه ونتائجه بحيث توضح له الأخطاء التي وقع فيها ومقدار تقدمه ومقدار ما تعلمه ومدى ملاءمة أدائه للهدف الذي ينبغي الوصول إليه لتحقيق ما يضمن نماء الوطن ورفاهية المواطن.

ومن البديهي بأنَّ الجماعة التي تعتمد على الاستشارة بشكل متواصل تكون الأقدر من غيرها في درء الأخطار، وتحقيق الإنجازات الكبرى. فالفرد الذي يترفع عن استشارة الآخرين فهو أناني بطبعه وغير مثمر، وكذلك الأمر مع المجتمع الذي لا يتشاور أفرادُه فهو مجتمع ينتابه الضعف والهزال، ولا يتأتى له النجاح والاستمرار. ولا يعتمد صلاح الأمر فقط على النية؛ بل يتطلب ذلك أن يكون لهذه المجتمعات ممارسات عملية تصبح عادات متأصلة متبعة تنتهج قانونًا ملزمًا في إدارة أحوالها وشؤونها. فنقيض الاستشارة هو الاستبداد الذي يجرُّ إلى موبقات كثيرة أهونها موبقة الخصام، والانتقام.

فالذي يستشير غيره يستخدم كلّ العقل، أما الذي يستبدُّ برأيه فهو يتصرّف بنصف العقل، لأنّ عقله ليس مختلطاً مع عقول الآخرين. يقول ربّنا عزّ وجلّ وهو يصف أصحاب رسول الله ﷺ: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38]. ويأمر الله نبيّه وهو أكمل الناس عقلاً، قائلاً: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ [آل عمران: 159].

وَلَا يمكن أن يستغني أحد عن الاستشارة حتى ممن يتمتع بذكاءٍ خارقٍ وفكرٍ وقّادٍ، لكون الاستشارة دلالة على كمال العقل؛ والتخلِّي عنها هو ليس من العقل والفهم في شيء. لذا يتلازم سرعة اتخاذ القرارات مع الحاجة الملحة إلى الاستشارة. لأنّ سرعة اتخاذ القرار بدونها تؤدي إلى سرعة العطب أيضاً، وهذا كالسيارة التي تنطلق بسرعة كبيرة يلزمها كوابح قوية، لأنّها أكثر عرضة للأخطار من غيرها. يقول المثل المعروف: ”غلطة الشاطِر بألف“. فكلّما كان الفردُ أكثر ذكاءً فهو بحاجة إلى استشارة أكبر؛ لأن في المشورة على الأقل ما في الكوابح في السيارة من القدرة على إيقاف الفرد عن الانطلاق بشكل خاطئ.

فالاستشارة تبدأ من داخل الأسرة، مثل استشارة الرجل أهله وأولاده وحتى بين الأخوة أنفسهم، فقد ثبت بأن العوائل التي تعتمد الاستشارة كنظام متبع في تقاليدها يكون النجاح حليفها وملازمًا لها داخلياً وخارجياً، على العكس تمامًا من العوائل التي لا تعرف إلّا الأوامر والنواهي والتي تصدرُ من الكبار إلى الصغار، ومن الأقوياء إلى الضعفاء؛ فهي تتسم بضيق الأفق وعدم التقدم.

ومما لا شك فيه بأن الاستشارة تسهم بفرز القوانين، وتنظيم المؤسسات، وتكوين اللجان. وقراراتها تكون الأقرب إلى الصواب والنجاح، وأبعد عن الخطأ والفشل. ومن المؤكد أيضًا أن تاريخ الناجحين يثبت أنهم كانوا أكثر الناس استشارة في كلّ شيء، وفي جميع الظروف والأحوال. فالمشاورة حالة حضارية تتطلبها الفطرة الإنسانية، وتؤكد عليها الشريعة الغراء، وهي مدعاة للتطوّر والرقي في كلّ شؤون الحياة ومناحيها.

[1]  القرآن الكريم.
[2]  غُرر الحكم ودُرر الكلِم.
[3]  موسوعة أحاديث أهل البيت.
[4]  العقل والجهل في الكتاب والسُّنَّة.
[5]  موقع مؤسسة علوم نهج البلاغة
عن بحث للباحث: سَلَام مَكيّ خضَيّر الطَّائِيّ بتصرف.
[6]  موقع البلاغ عن كتاب كيف تبدأ نجاحك من الحد الأدنى؟
نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العوامية الخيرية للخدمات الاجتماعية