بين الحركة الدائبة والثبات النسبي
الشائع أن التاريخ، هو رصد لحركة البشر، منذ أن بدأ الاجتماع الإنساني.. وأن مهمة المؤرخ هي متابعة هذا الرصد. وقد كان الأمر كذلك، حتى برزت النظرية الخلدونية، التي نقلت مفهوم التاريخ، من مجرد نقل للأحداث إلى بعد نظري أعمق، حدد القوانين التي تشكل الدولة، والمراحل التي تمر بها. ورغم ما أحدثه العلامة العربي عبدالرحمن بن خلدون، من تطور في علم الاجتماع، فإن بداية الحديث عن علاقة الدولة بالعصبية، وإسهاماتها في نشوء الدولة، واعتبار العمران آخر مراحلها، فإن الفضل يعود بالأساس للفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، في مضاهاة الدولة بالكائن العضوي، حيث الطفولة والصبا والشباب فالكهولة والشيخوخة.
لكن هذا التقرير، لا يعني التسليم بقانون الدورة التاريخية، بما يعني أن سقوط إمبراطوريات، يتبعه بالضرورة بروز إمبراطوريات أخرى، في حركة ميكانيكية لا يبدو أن لها نهاية. إن التسليم بقانون الدورة التاريخية، بشكلها الميكانيكي، يلغي عبقرية الإنسان، وقدرته على تطوير آليات حياته، واجتراح وسائل ونماذج تساعده على الاستمرارية. وذلك ما يمنح البعد التاريخي معنى أعمق؛ إذ لو كان التاريخ مجرد رصد جامد للأحداث، لما شكل أي إضافة نوعية للتجربة الإنسانية.
في الجغرافيا، نحن أمام نسق آخر من القوانين، سمتها الثبات النسبي. وحين نقول بالنسبية فلأن الأماكن ذاتها تكتسب هويتها من حضور الشعب المقيم عليها، ثقافاته وعاداته ومعتقداته وفلكلوره. وليس بإمكان أية قوة غاشمة، مهما كانت قوة جبروتها وغطرستها أن تلغي هذه الهوية. ذلك لا يعني على أية حال، أن القوى الخارجية المهيمنة، لا تعمل على فرض مفاهيمها وتسمياتها وسياساتها على العالم المقهور، وأنها لا تنطلق في رؤيتها للعالم خارج مركزيتها. وقد أشرنا في مقالات سابقة، إلى أن بريطانيا، على سبيل المثال اعتبرت عاصمتها لندن، مركز العالم، ومنها تحدّد موقع الشرق والغرب. ولم تكتفِ بذلك بل قسّمت الشرق إلى ثلاثة أقسام تبعاً للمسافة التي تفصلها عن ساعة بيج بن، فهناك شرق أدنى وهناك شرق أوسط وأيضاً شرق أقصى. جرى كل ذلك مع تسليم الجميع بكروية الأرض ودورانها اللانهائي.
وللأسف، فإن هذا التقسيم لم يقتصر على البعد الاستراتيحي والسياسي، المرتبط بموازين القوة العسكرية، وبقوة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بل تخطى ذلك بكثير، إلى أبعاد عنصرية.
نظريات التقابل قسمت العالم إلى شعوب علمانية ديناميكية مدنية وحديثة، وأخرى تسود فيها الخرافة والسحر والشعوذة، ويسكنها الكسل، وهي بطبيعتها ريفية ومتخلفة. وقد سادت هذه النظريات بقوة، في بلدان المركز بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرّت كذلك حتى وقت قريب. الدخول الصيني في مجال التصنيع وبناء قوة اقتصادية بشكل قلّ وجود نظير له في التاريخ الإنساني، دحض بشكل لا لبس فيه فشل وعقم هذه النظريات، لكنه لم يُنْهِ حتى هذه اللحظة عقدة التفوق لدى الغرب على المجتمعات الإنسانية الأخرى.
بعد اللقاء الأخير، الذي جرى خلال هذا الشهر، بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، والرئيس الصيني شي جين بينغ، عقد الرئيس الأمريكي مؤتمراً صحفياً حول لقائه مع الرئيس الصيني، وسأله أحد الصحفيين عما إذا كان لا يزال يصرّ على وصف نظيره الصيني بالدكتاتور، أجاب: «نعم هو كذلك؛ لأن نظامه السياسي لا يشبه نظامنا». وهو بهذا الجواب يعيد التأكيد على ما أشرنا له من التحيز الغربي، لشكل خاص من الأنظمة السياسية، ويرفض احترام خيارات الشعوب في اختيار نظمها، مع أن شكل النظام الغربي بات موضع استفهام وشك من قبل الكثير من المفكرين السياسيين، وبات تعبيراً عن التسلط والإكراه والإبادة وقهر إرادة الشعوب، وليس تعبيراً عن روح التسامح والرقي والحرية والاعتراف بالكرامة الإنسانية.
ومرة أخرى، فإن الحركة الدائبة للتاريخ، لا تلغي الثبات النسبي في الجغرافيا، دليل ذلك أن حجم الغطرسة والقهر الذي يسود بقاعاً كثيرة من العالم، وبضمنه وطننا العربي، لم يستطعْ أن يلغيَ الهوية التي صنعتها الجغرافيا وساهم في إذكائها التاريخ، وسيبقى حلم الوحدة أملاً يراود الكثيرين من أبناء الأمة، أبداً ما استمرّت إرادة الحياة.