حربٌ على القلب والأفكار
كنت في الصف الثاني ثانوي حينما أُصبت بجدري الماء الذي شوّه وجهي، اعتقدتُ يومها أنّ وجهي لن يعود كما كان، كنتُ أنظر إلى المرآة فلا أرى سوى تلك الفقاعات ثم أبكي بشدة، ومما خفف عبء إصابتي بالجدري وجود أختي بجانبي، فقد صحبتني إلى المشفى وأخذتُ العلاج المناسب، وبعد عشرة أيامٍ تحسّنت صحتي كثيرًا وكنتُ أنظر لوجهي في المرآة فلم أصدّق أنّه عاد كما كان، لقد اختفتْ جميع تلك الفقاعات المائيّة، بل شعرتُ أن بشرتي عُولجت وبدتْ أكثرَ صفاء مما كانت عليه سابقًا.
خضتُ حربًا مع هذا المرض، وكانت ذكرى سعيدة في حياتي، وعلى الرغم من مضي زمن طويل على هذه الحادثة إلّا أنني أتذكّر تفاصيلها جيدا؛ ربما لأن نهايتها كانت سعيدة.
والخلاصة مما ذكرتُ أن منعطفات الحياة الوعرة قد تترك انطباعًا حسنا لديك، فليت جميع ندوب الحياة وحروبها ودمارها تختفي مثل فقاعات الجدري التي اجتاحت وجهي ورحلت.
ليت الحروب ترحل دون أن تترك خلفها أثرًا سيئا مدمرًا في النّفوس، كم أتمنى أن يستيقظ المُتألّم ويكتشف أنّه كان يَحْلُم، ويراوده الشّك بأنّ كلّ ما لامس قلبه من ألم كان عارضًا سوف يزول مثل بثور الجدري.
تلك الحرب الطاحنة التي تدكُّ الحصون وتعيث الفساد في الشوارع، كلّما دارت رحاها لا تشتعل ألسنة نيرانها في المنازل وملاهي الأطفال فحسب، بل في قلوب البشر وأفكارهم ومشاعرهم.
مما لا شك فيه أن الحرب مأساة يدمّر فيها الإنسان إنسانا مثله، يستعمل أجود ما لديه ليصيب بيديه أبشع الجرائم فيمتد أثرها للمدى البعيد، ولا يرث الإنسان منها سوى شظايا نفسيّة كتلك التي خلفتها الحرب العالمية الأولى إذ ظهر مصطلح
«صَدْمَةُ القَصْف» والذي أوضح عجز الإنسان عن جمْع ما تبقّى من فلُول آماله بعد الخسارات الجسيمة التي أتلفت حياته، جرّاء الحروب الإباديّة، وظلّ يصارع الأمراض النفسيّة والذّعر والخوف والعجزَ عن الحديث.
إنّ حياتنا أقصر من أن نعيشها في الحروب ولعلّي لا أجدُ سبيلًا للراحة في هذه الزوبعة من الأخبار سوى التّجلّد وبسط الشكوى لله تعالى، والدعاء لإنسان قصمت الحربُ ظهره، وجرفت آماله، وشيّدت له أبراجًا عاجية من الحزن والأسى.
وإنّما أنا هنا في هذه العُجالة لا يسعني إلّا أنْ أتذكّر حياة محمد..
مُدهشة وقصيرة حياة نبينا الكريم، ممتلئة رحمة، يداهمني شعورٌ يتدفّق بشدّة مثل طوفان يهزمُ جميع قوانين الحرب المتعجرفة، يأسرني هذا الشّعور عندما يتردد صدى صوته الحاني ﷺ وهو يوصي:
«انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول اللهِ، لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلًا ا ولا صغيرًا ولا امرأةً ولا تغلّوا، وصنوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين»
كم كنتَ مُحسنًا!