منطق القوة ومنطق التاريخ
نشر الكاتب المتألق، والمفكر الصاعد، الأستاذ ميرزا الخويلدي مقالًا اليوم الأربعاء (8 نوفمبر 2023 م) في صحيفة الشرق الأوسط بعنوان ”نهاية الغرب لا (نهاية التاريخ)!“ يستعرض باختصار تاريخ ومبادئ الثورة التنويرية (الفرنسية) والثورة الليبرالية (الأمريكية) التي تسكت عن توحش الحركة الصهيونية العالمية بأداتها ”إسرائيل“ (الكيان الغاصب المحتل ما ليس له) وما ترتكبه من إبادة جماعية للفلسطينين، وخاصة في قطاع غزة. ويختتم الأستاذ الخويلدي مقاله بـ (حين تفتقد الحضارة قدرتها على تمثيل الإنسان وإسعاده وتحقيق تطلعاته... بل حين تصبح أداة للقسر والظلم والعدوان والشقاء... فإنها تتهاوى، وهنا يأتي كلام كارل ماركس: ”إن كل نظام يشتمل في نفسه على بذور هدمه“) انتهى.
وقبل أربعة أشهر، وتحديدًا في 8 يوليو 2023 م، نشرت صحيفة الشرق الأوسط مقالة لفيصل محمد صالح، وزير الإعلام السوداني السابق، بعنوان ”إنها الحرب يا غبي...!”، وهو كما أوضح الكاتب،“ ليس نوعًا من السباب أو الإساءة، بل تعديل بسيط لجملة (إنه الاقتصاد يا غبي) (It is Economy, Stupid) التي صارت شعاراً أساسياً لحملة بيل كلينتون الانتخابية عام 1992، صاغها المخطط الاستراتيجي للحملة جيمس كارفيل لتكون أحد شعاراتهم ضد حملة الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، الذي ركز على الأمور السياسية والعسكرية وأهمل الاقتصاد، وفعلاً فاز بيل كلينتون بولايتين انتخابيتين معتمداً على النجاحات الاقتصادية".
لم تقتصر العبارة على هذه المناسبة وحسب، بل أصبحت مقولة تتبادر إلى الأذهان مع كل حدث أو قضية، مع تغيير موضوعها الرئيس، حيث إن الاقتصاد مال والمال قوة وسلاح، وقد عرف اليهود الصهاينة كيف يوظفونه لقضيتهم، رغم عدم صحتها وعدم عدالتها، فتغلغل المال في كل مفاصل الحياة الغربية، مع امتلاكهم للإعلام ومنصات التواصل، مع ظهور الثورتين: ثورة المعلومات وثورة الاتصال، فأصبحت الصهيونية حاكمة وانساق الليبراليون والتنويريّون معها رغم عدم إنسانيتها ومخالفتها للمبادئ التي رفعتها الثورة الفرنسية: (الحرية والمساواة والإخاء)، وبعدها الثورة الأميركية: ”تأسيس دولة ديمقراطية تتبنى مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وإنشاء دستور جديد يضمن الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والدين والصحافة والتجمع، وسيادة الشعب، والمساواة، والحماية من الاستبداد“، كما ذكر الأستاذ الخويلدي.
لقد استطاعت الصهيونية بقوة المال والإعلام أن، كما يذكر الكاتب، تُخضع (قوى التنوير) وتحولها إلى ”أدوات لقمع الشعوب ومساندة الاحتلال وتبرير جرائمه، بل تزوير التاريخ أيضاً …. و[تتغاضى] عن الإبادة الجماعية الموثقة والمنقولة على الهواء مباشرة، وعن قتل الأطفال.. [بل] و[تكمم] أفواه الصحافيين، و[تخرس] ألسنة المغردين، و[تلاحق] أصحاب الرأي، و[تقمع] حرية التعبير...“. ويحق للمتابع المصدوم أن يتساءل، كما فعل الخويلدي، ”كيف لنظام يقوم على الحداثة، ويدّعي العدالة الإنسانية، أن يتبنى أكثر الخطابات تطرفاً: تقسيم العالم إلى فسطاطين، إلى عالم الخير وعالم الشرّ؟، ويجيب على سؤاله وإن بسؤال،“ هل كانت إسرائيل هي الثقب الأسود الذي يبتلع قيم الغرب الديمقراطي الليبرالي... أو أن تلك المنظومة هي التي كشفت عن نفسها لحظة الحقيقة؟"
والذي لا بد من ذكره في هذا الجدال، هو أن لا ننسى أن ”القوة مفسدة“ (Power corrupts)، وأن البراغماتية (pragmatism) ”لا - أخلاقية“، بل مصلحية نفعية؛ فرغم أنّها تتقيّد ببعض الفضائل، إلا أن هذه الفضائل ليس الهدف منها الفضيلة ذاتها، كما تبين أسماء أبو حديد (2023 م) [1] ، بل هدفها الالتزام بها بمدى فائدتها عند التعامل مع الآخرين، وهذا يظهر في أساليب الدعاية والإعلام الرأسمالية؛ مثلًا برغم أنّ الخمور والإعلانات المنحلّة غير أخلاقية إلا أنها مقبولة جدًّا عند البراجماتية؛ لأنّها نافعة ماديًّا أكثر من الإعلام الملتزم. ”وتضيف الأستاذة أبو حديد“ أنّ البراجماتية منذ ظهورها كانت سببًا لكل الحروب، ولا يوجد رادع فيها ما دامت نافعة".
وفي الختام، ”إسرائيل“ هي المخلوق اللعنة الذي أوجده الغرب في بلد الضباب ليبعده عن الدم الأزرق وليشرب دماء الآخرين، ومن أفضل دمًا من العرب المهزومين، وحتى لو لم تُوجِد المنظومة الغربية ”إسرائيل“ كانت حقيقة المنظومة حتمًا ستنكشف يومًا ما بطريقة ما؛ لأن حركة التاريخ لا ترحم الإمبراطوريات، خاصة حين تطغى وتتوغل في دماء الأبرياء.