أيهما أقرب؟
أنا في هذا الموضوع لست بصدد الحديث عن دلالة الجملة الأسمية، التي تفيد ثبوت شيء لشيء، أو الجملة الفعلية التي يفهم منها حدوث شيء في زمن معين، بل بصدد الحديث عن تساؤل انقدح في ذهني: هل ثمة تفاوت أو تباين في فهم جملة ما بين الأفراد نتيجة لتباين المعطيات المعرفية التي يملكها كل فرد منا أم لا؟
جملة واحدة تنطلق من فم واحد تسمعها أكثر من أذن، بيد أنه ليس من الضرورة بمكان أن تكون ترجمة عقول الجميع لدلالتها واحدة، وذلك لاختلاف المعطيات والخلفيات المعرفية وتباين فهم المستقبلات.
فلنحاول جعل هذه المعلومة واقعا تطبيقيا من خلال المثال التالي:
أب لديه إبنان، أحدهما سأل أباه: أي الطريقين نسلك؟
فأجاب الأب: اسلك أقربهما. فتوجه أحدهما مسرعا للطريق الأقرب لأنه على معرفة ودراية بالطريق الأقرب مسبقا، بخلاف أخيه وقف محجما حائرا لم يتحرك، بل كرر السؤال على أبيه لعدم درايته أيهما أقرب؟ ينتظر المزيد من الإيضاح والبيان.
فهنا نلاحظ بأن الأب نطق بعبارة واحدة، ولكن كل إبن اتخذ موقفا سلوكيا مغايرا للآخر وفق ما يملكه من زاد معرفي.
فالمستفاد هنا هو بأن كل مختص أو مهتم في الساحة الثقافية والفكرية والمعرفية، من شاعر أو كاتب أو مفكر أو خطيب أو إمام جماعة أو معلم ينبغي عليه ألا يتصور بأن أطروحاته ستكون موضع قبول واستحسان جميع المتلقين، وكذلك لا بد من الوضع في الحسبان بأن استحسان المستحسنين له ليس على مستوى واحد من الاستحسان، وذلك لأن مادته المعرفية لن تصل إلى عقول متلقيه على نحو واحد من الوضوح والنصوع، فبعضهم ستصله ناصعة بيضاء، وآخر يشوبها نوع من الغبش وآخر يحوطها ضباب غير مانع للرؤية ونحو ذلك.
ولا ينبغي أيضا أن يغفل عن رفض المتلقين لمادته المعرفية التي قد يكون منشؤه ضباب بياني مانع لرؤية المتلقي له، فاللوم كل اللوم في هذه الحالة على صانع المحتوى وليس على مستقبله.