آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:28 م

المُتلقِّي العَصرِي وأزمِنَة الوهمِ والهيمَنة

محمد الحميدي

تغيراتٌ كبيرةٌ شهِدتها العقُود الماضِية على مُستوى الثقافةِ والتَّدوين، إذ حِينما كُسرت معاييرُ الأجناسِ الأدبيَّة، فتمازجَت، وخرجَت من إطارِ الكتَابة التقليديَّة؛ خضعَت لمعاييرَ جدِيدة، وضعَها صانِعو المحتَوى، ومسؤولُو إدارةِ الصَّفحات الاجتماعيَّة، الأمرُ الذي كرَّس انقسَام الأجنَاس، وتشظِّيها، وهما السِّمتان اللتانِ تظهرانِ بوضُوح، على منشُورات ومشاركَات برامجِ التَّواصُل، وشبكَات السُّوشيال مِيديا، التي تجاوزَت مسائِل التَّحاوُر والتَّواصُل، إلى صِناعة أشكَال الكتابةِ والميديا؛ ما أدَّى إلى صِراع هَيمنة ونفُوذ بينَ الكَاتب والمتلقِّي، شمِل كيفيَّة الكتابَة، وحجمَ المكتُوب، وشُروط تلقِّيه.

المتلقِّي العَصرِي

حريةُ الكتابَة، والظُهور الافتراضِي؛ حقٌّ لم يعُد مقتصراً على النُّخب الثقافيَّة والأدبيَّة، فبسببِ سهُولة التَّسجيل، وإتاحةِ إمكانيَّة النَّشر، نالَ الجميعُ حقَّ التَّدوين والتَّفاعل وإبداءِ الرَّأي؛ ما نقَل التلقِّي إلى مُستوىً غيرِ مسبُوق، لم يعُد فيه سلبياً إزاءَ القضَايا التي تُطرح، والموضُوعات التي تُناقش؛ إذ الجميعُ أصبحُوا قادِرين على التَّأثير وإحداثِ التَّغيير، عبرَ توجيهِ الأنظارِ ناحِيةَ موضُوعات معيَّنة؛ يهتمُّون بها وتُشكِّل محورَ حياتِهم، فشاركُوا الكَاتب في كتابتِه، والإعلاميَّ في ظُهوره؛ ما تسبَّب في اتِّساع المعايِير، ولم تعُد حكراً على جِنسَي الكتابةِ والميديَا.

التشظِّي الهائِل، وتنوُّع المقارباتِ والأشكَال، وعدمُ القدرةِ على ضبطِها ضمنَ أُطُر محدَّدة؛ مثَّلت أبرزَ خصائِص المنشُورات والمشاركَات الافتراضيَّة، لهذَا نشَطَ التلقِّي المفتُوح، الذي لا يُقيم وزناً لاختلافِ الأشكَال، بل لكيفيَّة دمجِها؛ من أجلِ التَّأثير على المتلقِّي، وإعطائِه جُرعة عاليةً من المعرِفة والمُتعة، متجاوزاً أهمَّ إشكَالين: إيقاعُ الحياةِ السَّريع، وضِيق الوقْت؛ ما أدَّى إلى تقليصِ حضُور الكتاباتِ الطَّويلة، واستِبدالها بالعِبارات الإيحائيَّة القصِيرة.

الالتزامُ بشَرط العِبارة الإيحائيَّة القصِيرة؛ قادَ إلى التَّركيز على إيصَال الفِكرة إلى المتلقِّي، ومحاولةِ تجاوُز مشوِّشات استقبالِه، فتمَّ استبعادُ التفاصِيل الزائِدة، التي اعتُبرت بلا قِيمة على مُستوى الموضُوع، بينَما قِيمتُها الحقيقيَّة تفُوق كَونها حشواً، وكلاماً فائضاً؛ إذ تهدِف إلى زيادةِ الخِبرة والمعرِفة، وهُو ما يُؤدِّي لصناعةِ وعيٍ إنسانيٍّ متقدِّم، يسهمُ في جعلِه قادراً على فهمِ الحيَاة، وإدارةِ مُستجدَّاتها.

استِمرارُ خضُوع المتلقِّي لمستوياتٍ مُنخفِضة من الوعيِ الإنسَاني، وعدَم منحِه الخِبرة الحياتيَّة اللازمَة، عبرَ حِرمانه التَّفاصيل الإضافيَّة؛ أدَّى إلى التَّأثير على تكوِينه الثَّقافي، الأمرُ الذي أعادَ تشكيلِ وعيِه؛ كَي يقبلَ المستجدَّات، دُون أن يُبادر إلى طرحِ أسئِلة، أو وضعِ حواجِز، فأصبحَ فضاءً مفتوحاً، تمرُّ من خِلاله الكتابةُ والميدِيا، اللتانِ استغرقَ فيهما، ونقلَهما إلى متابعِيه.

غدَا الوعيُ المنخفضُ مشترَكاً، بينَ مُرتادِي شبكَات التَّواصُل، التي عمِلت على إبقاءِ وعيِ الأفرادِ عندَ نُقطة محدَّدة؛ غذَّت فهمَهم للحيَاة، وحدَّدت قُدرتهم على مُقاربتها، والتَّفاعُل معها، لكنْ بسببِ اتِّساع الحيَاة، وكَثرة تفاصِيلها؛ اختلَّت المعايِير، واختلفَت طرُق استِقبالها؛ ما أنتجَ حالةً من الانقسَام والتشظِّي، انتهَت بالفردِ إلى تقدِيس الذَّات، وتمجِيد العُزلة.

إعطاءُ الفردِ لذاتِه مكانةً وأهميَّة؛ دفعَ إلى تضخُّمها وانعزالِها عن البقيَّة، حيثُ سعَت للحصُول على هُوية جدِيدة؛ تستقلُّ بها، وتُعرف من خِلالها، وهُو ما اتَّضح عبرَ سُلوكها الافتراضِي؛ إذ تسبَّب بإنهاءِ النَّمطية، وإلغاءِ احتكَار الهُوية، وهُما صِفتان مُميِّزتان لأيِّ فردٍ داخلَ مجتمعِه، فوقعَ في مأزقِ انفراطِ التَّعاقُد التَّقليدي بينهُ وبينَ المتلقِّي، الذي شعَر بالضَّياع، وعدَم الاستِيعاب، ليتَّجه إلى فرضِ شرطَين؛ للقَبول بما يُنشر، هُما: قِصَر المدَّة الزَّمنية، ووضوحُ الدِّلالة الكتابيَّة.

لم يعُد التلقِّي قاصراً على النُّخب الثقافيَّة، كَما لم تعُد المعاييرُ المتداولةُ شرطاً للمشاركَة الافتراضيَّة؛ إذ اتَّسعت دائِرة الأنواعِ والأشكَال، واندمجَت فيما بينَها، وأفرزَت شرُوطها الخاصَّة، الخاضِعة لقوانِين برامِج التَّواصُل وشبكَات السُّوشيال ميدِيا، التي عمِلت على إعَادة صِياغة الوعيِ الإنسَاني، ودفعِه لإيجادِ صِيغة توافُقية جدِيدة، تحكُم علاقةَ المتلقِّي بالكَاتب، الذي انتقلَت وظيفتهُ من الكتابةِ إلى صِناعة المُحتَوى.

وهمُ الأشكَال الجدِيدة

خضُوع المتلقِّي لشُروط برامِج التَّواصُل، أفرزَ إشكالاً بينهُ وبينَ الكاتِب؛ تمثَّل في انفراطِ العقدِ الضِّمني بينَهما، إذ لم يعُد الكاتِب يكتبُ بلغةٍ معهُودة، كَما أن المتلقِّي لم يعُد يستسيغُ تِلك الكتابَة؛ حيثُ أخذَ في رفضِها، وعدَم القَبول بكاتِبها، وهُو ما أحدَث فراغاً في علاقتِهما، ملأتهُ القوانينُ الجدِيدة، التي اتَّفقا على الالتزامِ بها، فتغيَّرت الكتابَة، وحجمُها، وجنسُها، وظهرَت أشكالٌ مُستجَدَّة، شقَّت طريقَها إلى الفضَاء الافتراضِي، والمشهَد الثَّقافي.

الهَايكُو، والشَّذَرَة، والبيتُ المفرَد، والقصَّة القصِيرة جدًّا، والومضَة، واللقطَة؛ أشكالٌ اكتسحَت الفضَاء الافتراضِي والمشهدَ الثَّقافي، وتسبَّبت في تأسِيس قوانينَ جديدةٍ للاستقبَال والتلقِّي، حيثُ أصبحَ المتلقِّي يبحثُ عن الفائِدة والمتعَة، ضِمن كتابةٍ قصيرةٍ موحِية؛ تهدِف إلى إيصَال شُعور أو فِكرة، ولا تتجاوزُ ذلِك، إذ سيعدُّ من الأخطاءِ الفادِحة؛ أن تتجاوزَ الكتابةُ حدُود الفِكرة الواحِدة، أو الشُّعور الواحِد.

الشعورُ الواحِد والفكرةُ الواحِدة، تعدُّ امتداداً للعُزلة، التي أضحَت أبرزَ سِمات الحيَاة، فالتَّواصُل عبرَ البرامجِ لا يعنِي اللقاءَ فعلاً، بل هُو نوعٌ من اللقاءِ والّلا لقَاء؛ يتعارفُ فيه الأفرادُ ولا يتعارفُون، إذ يشاهدُون الوجهَ الذي يرغبُ الآخرُ في إظهارِه، أمَّا الوجهُ الفعلِي، والصورةُ الحقيقيَّة، فستظلُّ محجُوبة، ولا يمكنُ اكتشافُها، وهذَا من الغشِّ والخِداع، حيثُ ارتداءُ الأقنِعة؛ هدفُه تزييفُ الحقائِق، وإيهامُ المتابعِين، وهيَ ممارسةٌ اعتياديِّة داخِل الفضَاء الافتراضِي.

الأقنعةُ التي أخفَت حقيقتَه، وأتاحَت احتفاظَه بصُورة ذهنيَّة محدَّدة، تحوَّلت لرمزٍ يدُل عليه، لهذَا فإنَّ أيَّ اختلالٍ يصيبُها؛ سينتجُ اختلالاً موازياً على مُستوى عددِ المتابعِين، وهُو أمرٌ مرعِب بالنِّسبة لصَانِعي المحتَوى، الذينَ سيندفِعُون إلى تلبيةِ شرُوط متابعِيهم؛ المتمثِّلة بالاقتِصار على مدَّة محدَّدة، ودِلالة واضِحة، مع الابتعادِ عن ثُنائية ”شِعر / نَثر“، التي غدَت بلا معنَى؛ لأنَّ أيَّ مُحاولة لتجنِيس الكتابَة، وإدخالِها ضمنَ قوالبَ معيَّنة؛ ستقودُ إلى هُروبهم، وعدَم اهتمامِهم.

رعبُ الكاتبِ أجبرهُ على مُراعاةِ ذائِقة متابعِيه، والعملِ على تنفيذِ اشتراطاتِهم؛ إذ انفتحَ على جَميع الأشكَال والأجنَاس، ولم يلتزِم بقوانِين كتابتِها، التي أضحَت من الماضِي، ولا يمكنُ تطبيقُها، داخِل عالمٍ هدفهُ جذبُ المتابعِين واستمالتِهم، فتوحَّد الكاتبُ والكتابةُ في الاختِباء، خلفَ أقنعةٍ لا تكشفُ حقيقتَهما؛ حيثُ الكاتبُ اختبأَ خلفَ قناعِ الإيهامِ والتَّزييف، أمَّا الكتابةُ فاختبأَت خلفَ قناعِ التشظِّي، والمزاوجةِ بينَ الشِّعر والنَّثر.

أتاحَ توحُّد الكاتبِ والكتابَة، واختباؤُهما خلفَ أقنِعة كثيفَة؛ اختبارَ مُستوياتٍ لُغويَّة وأُسلوبيَّة لم تُعهَد، فسلكَت الكتابةُ منحَى التَّجريب، وتجاوزِ الأشكالِ والقوانِين، ساعيةً إلى اكتشافِ ما يناسبُها، ويوافقُ ذوقَها، حتَّى أصبحَ هاجِس التميُّز والتفرُّد أكبرَ انشغالاتِها؛ ما دفعَها إلى الإيغالِ في التَّجريب، ومحاولةِ الحصُول عليهما بأيِّ ثمَن، ليحدُث امتزاجٌ بينَ الكتابةِ والميدِيا، وتنتقلَ علاقتُهما من التَّجاوُر إلى التَّفاعُل، ومن الانفصالِ إلى الاتِّصال، ومن القطِيعة إلى التَّواصُل.

كِتابةُ المِيديَا / مِيديَا الكِتابَة

امتزاجُ الكتابةِ بالميديَا؛ ظاهرةٌ غزَت العالمَ الافتراضِي، حيثُ المشاركاتُ المنشورةُ لا تخلُو من روابِط تشَعُّبيَّة، تحيلُ إمَّا إلى مواقِع، أو صُور، أو فِيديُوهَات، في إجراءٍ يكشفُ اختصاصَ برامِج التَّواصُل ومِنصَّات السُّوشيال مِيديا، ويبيِّن مدَى تعاوُنها معَ المصمِّمين والنَّاشِرين، كَما يوضِّح رغبَتها في بقاءِ الزَّائرينَ لأطولِ مدَّة زمنيَّة داخِل تَطبيقاتِها، بلْ وعرضِ التَّسجِيل والانضمَام عليهم؛ بهدفِ زيادةِ أعضائِها.

لكلِّ برنامجٍ تواصُليٍّ عالمٌ خاصٌّ به، يختلفُ عن بقيَّة العَوالم، فأحدُها يختصُّ بنشرِ كتاباتٍ قصِيرة ومحدُودة، يصحبُها مقطعُ ميديَا، وآخرُ يختصُّ بنشرِ كتاباتٍ طويلَة وممتدَّة، يصحبُها عشراتُ الصُّور ومقاطعُ الميديَا، وثالثٌ يختصُّ بالبثِّ المباشِر القصِير والمتقطِّع، ورابعٌ يختصُّ بالبثِّ المباشِر الطَّويل والمُستمِر، وخامسٌ يكتفِي بالصُّور وحدَها، ولا يسمحُ بالكتابةِ والتَّعليق، وسادسٌّ يتيحُ تسجِيل الفعاليَّات الطَّويلة والاحتفاظِ بها.

خِياراتٌ كثيرةٌ، وإغراءاتٌ عديدةٌ؛ هدفُها استمالةُ الأفرَاد، وقَبولهم الانضِمام إليها، وعلى رأسِهم الكَاتب، الذي فقَد وظيفتَه، وأصبحَ صانعَ مُحتوى؛ مهمَّته إعدادُ النُّصوص، ومراجعتُها، والتأكُّد من جاهزيِّتها، ثم نشرُها بما لا يتجَاوز شرُوط البرنامَج، وهذا تطوُّر لافِت؛ إذ لم تعُد الكتابةُ هيَ الأسَاس، وإنِّما صِناعَة المُحتوى، التي باتَت تشملُ أيضاً جمعَ النُّصوص، والصُّور، والفِيديُوهات، والرُّوابِط، والعملَ على دمجِها، والمُوالفَة بينَها؛ لتُشكِّل مادَّة مقرُوءة، ومسمُوعة، ومُشاهدَة، يسهُل تداوُلها، وتناقُلها.

لا ينتمِي صانِع المُحتوى إلى فِئة الكُتَّاب؛ بسببِ عدَم إلمامِه بالأجنَاس، وما بينَها من فرُوقات، إذ غدَت بالنِّسبة إليه نوعاً واحداً، لا فرقَ بينَ شِعر ونَثر، أو ومضَة وشَذرة، لهذا عاملَها باعتبارِ وظيفتِها؛ المتمثِّلة بجذبِ المتابعِين، وإزالةِ إبهامِ المنشوُرات، وهيَ وظيفةٌ اكتسبَها من برامِج التَّواصُل، التي فرضَت هيمنتَها على المُصمِّمين والنَّاشرِين، حينَ ألزمَتهم بالخضُوع لقَوانينِها، وإنْ لم تتَّفق مع قَوانِين الأجنَاس الكِتابيَّة، هكَذا تمَّ استِبدالُ التَّعاقُد القَديم، بآخرَ جدِيد؛ يأخذُ في الاعتبارِ مُستجَدَّات برامِج التَّواصُل، وشرُوط نَشر المُحتوى.

امتلأَ العالمُ الافتراضِي بروُابطَ تشَعُّبِيَّة، أنشأَها صَانِعو المُحتوى، إلى أنْ باتَ قريةً صغِيرة؛ يسهُل الدُّخول إليها، والخرُوج منها، ورُغم شِدَّة تنافُس مُطوِّري ومَالكِي البرامِج، إلَّا أنَّ التَّعاون بينَهم لم ينقطِع، بلْ توثَّق؛ حيثُ أصبحَ الانتقالُ ممكناً فيما بينَها، ثُم العودَة مجدَّداً إلى البرنامَج الذي تمَّ الانطلاقُ منه، وهيَ خطوةٌ من شأنِها إعطَاء تعريفٍ جديدٍ للمعاجِم، والموسُوعات، ودوائِر المعَارف، التي ستندرجُ تحت مسمَّى الموسُوعة، كَما هيَ الإنسكلُو بيديَا والويكِي بيديَا، وستتحوُّل إلى روابطَ تَشعُّبيِّة؛ يسهُل الوصُول إليها، وتعدِيل مُحتوياتِها، وإكمالُ النَّاقص من مَعلوماتِها.

خضعَت الإنسكلُو بيديَا والويكِي بيديَا لهيمَنة برامِج التَّواصُل، فصانعُ المحتَوى غدَا قادراً على الحذفِ والتَّغيير والإضافَة، وهيَ إمكَانيَّات مهَّدت لاستقلالِ العَالم الافتراضِي، الذي باتَ لا يشيرُ إلَّا إلى داخلِه، ولا يحيلُ إلَّا على نفسِه، ولا يهتمُّ إلَّا بما يتمُّ تداولُه من خلالِه، حتَّى أصبحَ الأصلَ والمتنَ، وما عداهُ هامِش، ليسَ له قِيمةٌ أو تأثِير، طَالما لم يتحوَّل إلى ”مادَّة منشُورة، يسهُل اقتطاعُها، والنَّسخ منها، والتَّعديل عليها“، وهيَ عمليَّات أربَع، لا بُد منها؛ كَي يتحوَّل الواقعِي إلى افتراضِي، ويكونَ له وجُود ضِمن العَالم الجدِيد.

اختلفَت شرُوط تلقِّي مِيديَا الكِتابَة، عن شرُوط تلقِّي الميديَا بمفردِها، والكتابَة بمفردِها؛ حيثُ أبرزَت الحاجَة إلى متلقٍّ قادرٍ على المزجِ بينَهما، والانتقالِ بسهُولة وسلاسَة عبرَ روابِط، أنشأَها صَانِعو المُحتوى، الذينَ أُسنِدت إليهم مهمَّة مُراقبَة المُحتوَى، وتحديدِ ما يُعرض وما لا يُعرض، وهُو ما دفَع بصِراع الهيمنةِ على العَالم الافتراضِي إلى الواجِهة.

وهمُ الهيمَنة

المشاركةُ الواسِعةُ عبرَ برامجِ التَّواصُل وشبكَات السُّوشيال ميديَا؛ أنتجَت فوضىً وتشتُّتاً لا حصرَ لهما، فإتاحةُ الدُّخول إلى المنشُورات، واقتطاعِها، والتَّعليقِ عليها، ومُحاورةِ أصحابِها، والردِّ عليهم، برفضِ أو تأييدِ آرائِهم؛ أفرزَ حاجةً لتنظِيم المُحتوى وتقييمِه، واقتطاعِ غيرِ المرغُوب منه؛ إمَّا بحجبِه، أو بالتَّنبيه على زيفِه، وهيَ الوظيفةُ الإضافيَّة التي أُسنِدت إلى صَانِع المُحتوى، وسُنَّت على إثرِها القوانينُ الخاصَّة بالنَّشر.

غدَا صانعُ المُحتوى مُطالباً بمراقبةِ جميعِ المنشُورات، بما فيها منشُوراته الخاصَّة؛ حيثُ سيكُون مسؤولاً عن جميعِ تحُّركاتِه الافتِراضيَّة، أكانَت بقصدٍ أو بدُون قَصد؛ ما زادَ من صَرامتِه تجاهَ ذاتِه، وتجاهَ الآخرِين، الذينَ سيجتهدُ في مراقَبة منشُوراتهم، والتَّأكُّد من عدَم إساءَتها، أو تجاوُزها للحدُود، ليوضَع أمامَ مأزِق كَبير؛ تمثَّل في ممارستِه لدورٍ لم يكُن مستعدًّا للقيامِ به.

مراقَبةُ المُحتَوى، والتَّأكُّد من التزامِه بالشرُوط الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة، إضافةً إلى خضُوعه لقوانِين الشَّركات، التي أنشأَت البرامِج التواصُليَّة والشبكَات التفاعُليَّة؛ أمرٌ أشعرَه بالقُوَّة، إذ أصبحَ بإمكَانه المُطالبَة بحذفِ المنشُورات، وحجبِ الصَّفحات، عبرَ تقدِيم شكَوى إلى الأمنِ الافتراضِي، الذي سيتولَّى مُلاحقَة أصحابِها، وإجبارِهم على حذفِها، أو تَغييرِها.

من أسهلِ العقُوباتِ وأكثرِها تأثِيراً؛ حجبُ الصَّوت والصُّورة والكِتابة، عبرَ تقييدِ المتابعِين، ومنعِهم من الوصُول إلى المنشُورات، وهُو ما يعدُّ حُكم إعدامٍ، يطلقُه صانِع المُحتوى، الذي تجاوزَت وظيفتُه مراقبةُ نفسِه والآخرَين، والتَّأكُّد من الالتزامِ بالقوانينِ والشُّروط، إلى الشِّكاية على المخالِفين، ومحاولةِ التَّأثير على آراءِ المتابعِين، فتضخَّمت ذاتُه، وامتلأَت بالأنانيَّة والفرديَّة، ومُنِحَت إحساساً بالهيمَنة والقُدرة على إحداثِ الفَارق.

الآراءُ، والمعتقداتُ، ووجهاتُ النَّظر، أصبحَت تخضعُ للمراقَبة والتَّدقيق، فحينَما انتقلَت من الواقِع الفعلِي إلى العَالم الافتراضِي؛ اضطرَّت إلى الالتزامِ بشرُوطه، التي أتاحَت لصانِعي المُحتوى مراجعتَه وتعديلَه؛ لتفقِد بذلِك استقلالَها، وتدخُل ضِمن الوعِي الزَّائف، الذي يسهُل تشكيلُه، وتمريرُه، وهيَ المرحلةُ الأخِيرة في صِناعة الوعِي البدِيل، التي باتَت وظيفةً وهدفاً، لبرامِج التَّواصُل ومِنصَّات السُّوشيال مِيديَا.

وهمُ الهيمَنة والتأثيرِ اكتسحَ العَالم الافتراضِي، فأتاحَ لمُرتادِيه حُريَّة غيرَ مسبُوقة، مثلَما فرضَ عليهم رقابَة صارِمة، ولمنعِ الفوضَى؛ سُنَّت قوانينُ هدفُها الرَّقابةُ على الحرِّيَّة، لتغدوَ حُريَّة مشرُوطة، خاضِعة للمُراقَبة بواسِطة الأفرادِ أنفسِهم، الذينَ تضخَّمت ذواتُهم، وأصبحَت ممتلِئة بالأنانيَّة، والفرديَّة، وهيَ الصِّفات التي تُميِّز رُوَّاد برامجِ التَّواصُل، وخُصوصاً مشاهِير السُّوشيال مِيديا.