كيف يمكننا تغيير حالة الركود الثقافي في مجتمعنا؟
عندما أتصفح سير أعلام الأدب والفكر في مصر في القرن العشرين، ولا سيما في النصف الأول منه، كثيراً ما تشدني وتسترعي انتباهي وإعجابي وتساؤلي، قصص المعارك الأدبية التي نشبت في تلك الحقبة، بين مختلف الشخصيات الأدبية الفاعلة، مثل المعركة التي اشتعلت بين زكي مبارك وطه حسين أو المعركة التي دارت بين الرافعي وعباس العقاد وغيرها من السجالات والمعارك الأدبية التي كانت الصحف ميدانها الأبرز، فهذه السجالات كانت سبباً في بروز نهضة فكرية وأدبية وملحوظة تمتعت بها مصر طيلة النصف الأول من القرن العشرين. وبقدر ما اتسمت تلك المعارك بالسجال الأدبي، فقد أغنت الساحة الأدبية بنشاط نقدي وفكري ثري فريد، وكانت محفزًا لظهور مؤلفات أدبية وفكرية عديدة، بل كانت موضوعًا لأطاريح أكاديمية استلهامًا من أجواء تلك المعارك وتوسيعًا لها من دائرة الصحافة إلى دائرة التأليف. ولا شك أن ازدهار الصحافة حينها، وتنوع الصحف بين سياسية ودينية وأدبية، ووجود مساحة عريضة من القراء والمتابعين ساعد كثيراً في بروز هذه السجالات والحراك الأدبي الكثيف الذي صبغ المرحلة بصبغة الأدب والثقافة.
مثل هذه الظاهرة الثقافية الغنية الفريدة نفتقدها حالياً في عصرنا، وذلك له أسباب كثيرة، منها تغير وسائل التواصل والإعلام وضمور الصحافة والإذاعة وتراجع البرامج الأدبية في التلفزيون، كذلك التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العميقة وغيرها. وفي رأيي السبب الأهم هو، هيمنة قيم السوق والإعلان والتسويق وما يطلبه المستهلكون على الفضاء الإعلامي، حيث شاعت برامج الترفيه والتسلية، وبرزت الشخصيات الهامشية الفارغة من الأدب والثقافة، وبتنا نشاهدهم يتصدرون المشهد الإعلامي والثقافي، ويحلّون ضيوفاً في البرامج الحوارية التي في معظمها فارغة من أي محتوى مهم ومفيد.
هذا الركود والضمور الثقافي والأدبي الذي نعيشه، له أسباب عديدة كما أسلفت، بعضها خارج عن سيطرتنا، ولا قدرة لنا على صنع شيء تجاهه، لكن ثمة أسباب أخرى، بعضها له علاقة مباشرة بالمجتمع وطريقة تعاطيه مع وسائل الإعلام والتواصل، بإمكان أفراد المجتمع صنع التغيير للأفضل، من خلال الاهتمام بجودة المحتوى في وسائل التواصل، ومتابعة وتشجيع الجهات والأفراد الذين يقدمون محتوى مثرياً وراقيا، وترك المحتوى الهابط والمبتذل وعدم متابعته. حينها يمكننا صنع فارق في سبيل النهوض بالمستوى الثقافي والأدبي في المجتمع.