ولكنّه أبوك!
شركة عملاقة رائدة تبادر بين وقت وآخر إلى تكريم موظفيها المثاليين الذين خدموا لسنوات طويلة، وطلبت من كل موظف أن يحضر برفقة والده باعتبار أن الوالد أحد الشركاء في تأسيس وبناء أي موظف وله يعود - بعد الله عز وجل - الفضل الكبير في نجاحه وبروزه.
تفاجأ أحمد بهذا الطلب، وحار في أمره نظرًا لكبر سن والده الذي بلغ به الخرف ويخاف أن يحرجه بين زملائه فماذا يفعل وهو بهذه الحالة، وإبقاءه في البيت ليس من مصلحته خصوصًا عندما عرف أن كل الموظفين المزمع تكريمهم سيرافقون آباءهم لذلك قرر أن يبقي والده متواريًا في آخر قاعة الحفل، وأوصاه أن يلزم الصمت ولا يحاول أن يتكلم مع أحد فهذه تعليمات وقوانين الإدارة.
انطلقت فعاليات الحفل، وكل موظف ملتصق بكتف والده مزهوًا ما عدا أحمد الذي بقي مشوشًا ومرتبكًا طول الوقت فتارة يعبث بجواله وتارة يسترق النظر للخلف يراقب والده.
تقدم كل موظف ليستلم هديته، ويلتقط بعض الصور التذكارية مع والده، حتى وصل دور أحمد الذي صار يتعثر بخطواته وهو يتقدم ناحية منصة التكريم وحيدًا بدون والده وجميع الحضور مشدودين النظر إلى أحمد، فحدثت جلبة في وسط الموظفين لأنهم يعرفون أحمد تمامًا موظف خلوق ومجتهد ومتميّز في عمله وحضوره هكذا بدون والده ترك علامة استفهام عند الجميع، لذلك سأل عريف الحفل أحمد عن والده، فأجاب بتلعثم وبصوت منخفض؛ هو مريض ولا يقوى على الحركة، وما رغبت أن أتعبه فأبقيته هناك بعيدًا ليرتاح فردّ عليه عريف الحفل بغضب: ولكنّه أبوك!
تلعثم أحمد وجذب هديته بشدّة من يد العريف وهَمّ بالمغادرة، في الأثناء سمع الحضور صوت مرتفع به بعض البحّة قادم من أقصى القاعة «أنا أبو أحمد موجود هنا» تسمّر الحضور، والتفتوا للمقاعد الخلفية البعيدة، ولمحوا رجلاً نحيف البنية يرتدي ملابس رثّة ونظارة قديمة، خيّم الصمت على الجميع، بينما وقف أحمد مصدومًا في مكانه، تقدم أبو أحمد بخطوات متثاقلة ناحية المنصة، والتقط الميكرفون بهدوء من يد العريف، وعرّف بنفسه للجميع، وحدّق بعين العتب واللوم صوب ولده، وقال ليس عيبًا أن تفخر بوالدك وهو على هذا الحال، بتجاعيد وجهه، بعكازه الخشبي، بعينيه المتعبتان، بملابسه الرثّة، كل هذه الأوصاف التي تخجل منها هي من صنعت منك رجلًا أنيقًا وموظفًا مرموقًا، العيب أن تنكر فضل من أحنى ظهره وهو يكدّ عليك ليسد جوعك، ويأتيك بلوازمك المدرسية، ويلبسك أحسن الملابس حتى كبرت ونجحت وبدلًا من أن تتباهى وتفخر به صرت تخبّئه عن أعين الناس، ختم كلامه وفي عينيه دموع متجمّدة لم تشأ السقوط، ثم أخذ حاله وهو يتجرّع غصّة الموقف وخرج من قاعة الحفل، وهو يهمهم ويدعو إلى ولده بالهداية والصلاح.