الوطن نسبٌ جامع
أجريت للشاعر البريطاني هيوقو ويليامز (Hugo Williams) [1] عملية زرع كلى ناجحة في عام 2014 م بعد سنوات من المعاناة وعمليات غسيل الدم. وعن هذه المعاناة، كتب عدة قصائد يسودها الحزن والكئابة في تباينٍ واضح لإسلوبه المعتاد. من هذه القصائدة قصيدة ”Homesick“ (الحنين للوطن)، وهي من ضمن مجموعته (Lines Off) التي صدرت عام 2019 م. في هذه القصيدة يصوّر هيوقو قسوة الحياة على الممرضين والممرضات الذين قاموا بالعناية به وموجبات غربتهم، معبرًا عن تعاطفه معهم وعن الحنين للوطن الذي يجمعه بهم. يقول فيها:
النَّدَبَاتُ الصغيرةُ على وجوههم
هي أسماءُ قُراهُم
”نُقِشَتْ“ حين كانوا أطفالًا
تحسبًا لضياعهمْ.
.... .... ....
وجوههم خرائط
يحملونها معهمْ
وهم ينتشرون في البلدان
من أجل حياةٍ جديدة.
.... .... ....
تبدو النَّدَبَات كآثارِ دموع
انسابت من أجل طفولتهم
وهم ”يكدحون“ في عملهم
في مشافينا الشماليَّةْ.
.... .... ....
عندما يوقظوني من نومي
لآخذ جرعة دوائي الليليَّة
يصيحون باسمي
ويُضيئون نورًا في عيني.
.... .... ....
أستيقظ … دون أن أعي أين أنا.
يجمع بيننا الحنين للوطن
بنشيجٍ يحمُلنا إلى أوطاننا
إلى قُرانا الضائعة.
يلاحظ القارئ أنّ الشَّاعر يبدأ بالتأمل في وجوه من حوله، ونعرف لاحقًا أنه معهم في أحد ”المستشفيات الشمالية“ (في بريطانيا)، وهو المريض الذين يعتنون به. نظرات بطريقة توحي بوعي مشوه ومشوش لكنه متصاعد. ”الندوب الصغيرة“ التي تحملها وجوهم هي في ذات الوقت أسماء القرى والبلدات التي جاؤوا منها، ”نُقشت“ ”أثناء الطفولة“ (وفاعل النّقش لم يسمّ) وهذه النقوش كانت ”تحسبًا“ فيما لو تاهوا عن قراهم. إنّه تصورٌ يشبه الحلم، تظهر فيه تَشيؤات مختلفة بشكل واضح: ندوب، حروف، وجوه، طفولة، بلوغ.
يبدو صوت الراوي، الذي يفضل الفعل المضارع وفي جملٍ قصيرة منفردة تحاكي لغة الأطفال، كأنه ”صوت طفل“. أمّا ”الندوب“ و”الخرائط“ و”مسارات الدموع“، فتبدو كأنها شواهد على ارتحالات جسديّة محفوفة بالمخاطر.
تجربة الممرضات والممرضين الفعليّة في الهجرة والحنين للوطن، والتي تم استحضارها أولًا بشكل رمزيّ وبطريقة ”هلوسة“. ربّما من تأثير المخدر أو الألم، يتم فهمها بشكل أكثر واقعيّة مع تقدم القصيدة، كما لو كانت تتبع عمليّة يقظة متزايدة. تكتسب رؤية الراوي الوضوح والتعاطف من منتصف المقطع الثالث، حيث يتحول السطران الأخيران إلى الواقعيّة المسطحة، مع بقاء التعبير طفوليّ: ”تبدو الندوب مثل آثار الدموع / بكت لطفولة /تكدح/ في مستشفياتنا الشمالية“.
على الرغم من أن المنظور في المقطع الرابع شخصي أكثر بشكل مباشر، إلا أنه يقدم ارتباطًا واضحًا بين تجربة المريض والظروف الأكثر قسوة التي قد تفلت أثناء رعايته. ”الصراخ بالاسم“ و”الضوء الساطع في العيون“ يستحضران العنف والقسوة؛ فإيقاظ المرضى بشكل غير اعتيادي لتلقي العلاج هو فعلٌ مؤذيٌّ جدًا؛ أو رعبٌ تم تسجيله خطفًا (موحيًّا بقصر مدته)، مهيئًّا إلى المقطع الأخير: ”أستيقظ، لا أعرف أين أنا / الحنين للوطن يعتري الممرضين والمريض/ وبكاء يأخذهم إلى أوطانهم / إلى القرى المفقودة أو الضائعة“. في هذا المقطع يتم كسر الأسلوب النحويّ في المقاطع السابقة، مع الانتقال السهل من الفردانيّة في الجملة الواصفة للحال حين الاستيقاظ (دون أن أعي أين أنا) إلى ”الجماعة“ في السطور الأخيرة بضمير الجمع الحاوي في ”بيننا“ و”يحملنا“ و”قرانا“، يعني ”نفسه والطاقم التمريضي الغرباء“، وذاك ”الأمر الجامع“ بينهم هو الحنين للوطن. وقد قالت العرب في شعرها قديمًا: الغَريبُ للغَريبِ نَسيبُ. يقول إمرؤ القيس:
أجارَتَنا إنّا غَرِيبَانِ هَا هُنَا **** وكُلُّ غَرِيبٍ للغَريبِ نَسِيبُ
ومثله يقول ابن نباتة المصري:
غريبُ غرامٍ في غريبِ محاسنٍ **** وكُلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ
أمّا أبو نواس فيقول:
أسعديني على الزّمانِ عَريبٌ **** إنّما يُسْعِدُ الغريبُ الغَريبَا.
الحنين للوطن، كما يعرفه مَن تملّكه وقتًا ما، طال أو قصُر، هو لذةٌ بألم؛ أو مرح بصراع. المغتربون (البعيدون عن أوطانهم) الذين يألمون بسبب ”ضياع القرى“ وفقد الأمان، الحنين إلى الوطن يربط بعضهم ببعض. قد يكون في هذا الاشتراك الشعوري الجمعي (العاطفة المشتركة مع آخرين) الراحة الوحيدة في تجارب المعاناة، كالغربة والصراع مع المرض، الذي قد يسبب غربة عن الذات، أو معها، كإضافة للغربة عن ”الوطن“. وربما هنا إشارة رمزية إلى أن ”الذّات“ قد تكون وطنًا أو بالأحرى أن الوطن هو ذات مضمومة في الهويّة التي يكوّنُها، وفي الحالين هو شيء يتدفق في الروح كما، يقول الشاعر الأردني، حبيب الزيودي (رحمه الله):
”ألا أيها الوطن المتدفق في الروح …“
لهذا كان التغريب عن الوطن نفيًّا عقوبة مؤلمة جدًا، ويقول ابن الفارض:
عذِّب بما شئت غيرَ البعدِ عنكَ تجدْ
أوفى محبٍّ بما يرضيكَ مبتهِجِ
الشاعر هنا يخاطب محبوبه، لكن الشاهد واضح الدلالة على المقصود. ويقول في بيت آخر:
لم أدرِ ما غُربةُ الأوطان وهو معي
وخاطِري، أينَ كُنَّا، غيرُ منزعجِ
حتى وإن كان الاغتراب (الهجرة) اختيارًا فقراره مربك وصعب وعيشه أيضًا مؤلم جدًا، بأنينٍ وتَأَوُّهٍ وحتى ”بنشيجٍ“، كما يصفه هيقو وليامز في قفلته، كحالة حزن دميع يحمل الغرباء إلى تلك الأمكنة المفقودة خارج الجسد الساكنة في الوجدان.