اختلاف الرؤى
الاختلاف ظاهرة إيجابية، لمواصلة مسيرة التكامل الفكري والإنساني، فتعدد وجهات النظر يسهم في معالجة الأمور بطرق مختلفة، وكذلك تسريع إيجاد الوسائل السريعة، للسيطرة على الأزمات على اختلافها، ”أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله“، وبالتالي فإن الاستبداد الفكري يولد كوارث خطيرة على الصعيد الاجتماعي، جراء سيطرة فكرة واحدة على المشهد العام، ومحاربة حرية التفكير عبر استخدام وسائل متعددة، بعضها ذات طبيعية استبدادية، والبعض الآخر بواسطة التسخيف المتعمد.
النظرة السلبية لمبدأ الاختلاف، تتسبب في الكثير من المشاكل على مختلف الأصعدة، بحيث لا تقتصر على الأضرار المعنوية للأشخاص، ولكنها تصيب البيئة الاجتماعية بأمراض عديدة، جراء تشكيل ثقافة غير قادرة على استيعاب وجهات النظر المغايرة، الأمر الذي يحيل البيئة الاجتماعية إلى ساحة احتراب، ومناكفة غير صحية، نظرا لوجود ثقافة أحادية الجانب في الوسط الاجتماعي، لا سيما وأن التوجيه المتعمد لرفض الآراء الأخرى، سواء نتيجة مخاوف غير واقعية، أو بسبب الخشية من سحب البساط من تلك الأقدام، يطلق شرارة الاحتراب، وعدم السماح للآراء الأخرى بالتنفس، في الساحة الاجتماعية.
القدرة على إخراج الآراء الأخرى من الساحة، مرهونة بامتلاك الأدوات، والإمكانات اللازمة، خصوصا وأن المراهنة على قوة المنطق في تحقيق الغلبة، تعتبر من الوسائل المستبعدة في الغالب، نظرا لإدراك أصحاب النفوذ صعوبة تحقيق الانتصار بالطرق المشروعة، مما يستدعي انتهاج وسائل وطرق غير قانونية، لإخراج المنافس من حلبة المنافسة، فتارة عبر التلويح بخطورة انتشار الأفكار الجديدة، على الاستقرار الاجتماعي، والخشية من إحداث انشقاقات عميقة، في البنية الفكرية الاجتماعية، وتارة أخرى عبر تقسيط المتعمد لأصحاب تلك الأفكار المنافسة، من أجل سحب البساط من تحت الأقدام، ومن ثم فإن عملية الاستحواذ على الساحة الاجتماعية، ممارسة غير صحية في الغالب، خصوصا وأن تعدد الآراء تخلق حالة من التوازن الداخلي، وتساعد في رؤية الأزمات من جميع الجهات، جراء وجود أطراف عديدة، تعمل على وضع الأمور في المسار السليم.
البيئة الاجتماعية عنصر أساسي، في إتاحة المجال أمام تعدد الآراء، فالثقافة الاستيعابية السائدة تخلق المناخ الملائم لنمو ثقافة ”القبول“، ورفض مختلف أشكال ”الاستحواذ“ على العقول، أو محاولة فرض السيطرة على التفكير الاجتماعي بطريقة ”فجة“، انطلاقا من قناعات اجتماعية راسخة، بضرورة التعامل بوعي كامل مع الآراء الأخرى، نظرا لوجود مشتركات عديدة تدعم هذه الثقافة على أرض الواقع، فالرفض الشامل لا يولد سوى ردود الأفعال العنيفة، بحيث تظهر على أشكال متعددة، بعضها مرتبط بطريقة التفكير مع الواقع الاجتماعي القائم، والبعض الآخر يترجم بالتعاطي السلبي مع الأطراف المناوئة، خصوصا وأن ثقافة الاستحواذ تمهد الطريق أمام تضييق مساحات ”القبول“، التي تشكل مدخلا أساسيا في استمرارية الاستقرار الاجتماعي.
يصعب السيطرة على ردود الأفعال الناجمة عن نسف ”ثقافة الاستيعاب“، خصوصا وأن الأطراف الأخرى تعمل بمختلف الوسائل للدفاع عن أفكارها، من أجل الحفاظ على كيانها من الاضمحلال، والعمل على التواجد الدائم على الساحة الاجتماعية، الأمر الذي يفرض التحرك بطرق مختلفة لمنع ”الذوبان“ في الآخر، فتارة عبر إطلاق العديد من المبادرات الداعمة لمبدأ التعدد، واختلاف الآراء، وتارة أخرى بواسطة إماطة اللثام عن الأغراض الحقيقية، من وراء اعتماد سياسة ”إسكات“ الآخرين، خصوصا وأن احتكار الحقيقة ليس منهجا صائبا على الإطلاق، فالآراء على اختلافها قابلة للنقاش، من أجل الإقرار بصوابها، أو الوقوف على خطئها، وبالتالي فإن ”إسكات“ الأصوات تارة مرتبط بالخشية من افتضاح حقيقة تلك الآراء، غير القادرة على النهوض بالبيئة الاجتماعية، وتارة أخرى مرتبط بانعدام القدرة على الصمود في وجه التغيير القادم.