جهود الرواد والمصلحين في فكر الشيخ حسن الصفار
في صباي، عندما كانت أشرطة الكاسيت من أهم قنوات التثقيف الديني، وأكثرها انتشارًا بين الشباب المتعطِّش للدين، كان لبعض الأسماء المعروفة في دنيا الخطابة بريق خاص وشهرة طاغية.
آنذاك، كان اسم الشيخ حسن الصفار، الخطيب الحسيني البليغ والمتدفِّق حماسًا ومعرفةً يتوهّج بين قلَّة معدودة من خطباء “المنبر الواعي”، وكان صوتًا هادرًا يشحذ الهمم ويُغذِّي الفكر ويثري الروح، ويرسم بكلماته القوية ونبرته التي تشفّ حماسةً وصدقًا معالم الطريق الهادي إلى جوهر الإسلام ومفاهيم العقيدة من خلال براعة الاستعراض للسيرة الحسينية وملحمة كربلاء بكل شموليتها وعطاءاتها المباركة.
بعد سنوات قِلّة، قُدّر لي أن أرى وأسمع هذا الخطيب المفوّه في مهجره الدمشقي، حيث كان يرقى المنبر في إحدى الحسينيات المحاذية لمقام السيدة زينب عليها السلام، في حيٍّ يكتظُّ بوفود الزائرين من أصقاع الدنيا، وبجالية خليجية مقيمة تشاطر العراقيين محنتهم المديدة مع الشتات والغربة والألم. كانت سعادتي وقتها كبيرة، وتعمّق آنذاك انشدادي إليه أكثر من ذي قبل.
وعندما حدث الانفراج الكبير بالمملكة في أعقاب المصالحة التاريخية في يوليو 1993م، قُدّر للشيخ حسن الصفار العودة إلى بلده ومسقط رأسه، وتهيَّأت له الظروف لاستئناف دوره الوطني والنهوض بمسؤولياته الشرعية مجدَّدًا في الداخل كقائد وزعيم ديني بارز يحظى بتقدير كبير بين أبناء مجتمعه، ومع هذه العودة باتت الأرضية مؤاتية أكثر من ذي قبل للبدء في ترسيخ دعائم مشروعه الفكري في مجال الإرشاد والتوجيه الديني.
من القطيف، أصبحت فرص الانفتاح والتلاقي مع شخصية الشيخ الصفار أكثر منالًا ويسرًا، وباتت إرشاداته وكتاباته تتَّخذ لها أدوات جديدة تتناسب وطبيعة المرحلة الجديدة من خلال كتبه ومحاضراته وتوجيهاته وحضوره الإعلامي، وإن بقي الشيخ هو هو، في تجلياته الفكرية، وفي علو الهمة والاحتدام الصادر عن نفس عامرة بالإيمان الثابت.
ومن هنا، كان اقترابي الفكري والإنساني من شخصية الشيخ حسن بن موسى الصفار.
تتنوَّع الأدوار القيادية لعالم الدين في المجتمع، إذ يقع على عاتقه مهمَّة البحث العلمي لاستجلاء مفاهيم الإسلام وتشريعاته بالدراسة والتدريس والتأليف، إلى جانب وظيفة التبليغ والتبيين لمعارف الدين وأحكامه عبر الخطابة والكتابة، والقيام بأعباء الشؤون الدينية الاجتماعية من إمامة الجمعة والجماعة، والقضاء بين الناس، وإجراء عقود الزواج والطلاق، وصولًا إلى التصدّي السياسي المدافع عن قضايا الدين والأمة.
ونتيجةً لعِظَم وأهمية مكانة عالم الدين وموقعه القيادي في ظل تعقيدات الحياة المعاصرة وتطوُّر وسائل الاتصال والانفجار المعلوماتي، تتعاظم مسؤوليته الشرعية والاجتماعية في المجتمع، إذ يتعيَّن على عالم الدين أن يواكب كل هذه المتغيرات ويتعامل مع الإشكالات الفكرية المعاصرة، ويقدِّم إجابات وافية تتناسب مع روح العصر حول أهم وأبرز القضايا المستجدة.
والشيخ حسن الصفار، يعدُّ واحدًا من أبرز العلماء الذين تميّز نشاطهم العلمي بالشمولية والعمق، وقد تجاوز جهاده في مضامير العلم والثقافة والتبليغ والعمل الاجتماعي حدودًا تثير الدهشة والإعجاب كمًّا ونوعًا.
إن أبرز ما يُميِّز تجربة الشيخ الصفار، والتي تمتد لأكثر من ثلاثين سنة، أنه لم يكتفِ بالبحث حول أهم المشكلات الاجتماعية والثقافية المحلية والإسلامية في جانبها العلمي، بل حرص على تدوين خلاصة تجربته الفكرية والنضالية والعلمية عبر مؤلفاته التي أربت على مئة مؤلف تُمثِّل الخلفية النظرية والفكرية لعمله السياسي والاجتماعي والثقافي طوال هذه المدة الزمنية، سواء في مرحلة المعارضة في الخارج، أو بعد رجوعة واستقراره في وطنه[1] .
ويكشف لنا العطاء العلمي للشيخ الصفار تنوُّعًا غنيًّا وعطاءً ثرًّا، فقد ساهم في الكتابة والتأليف في مجال الفكر والثقافة الإسلامية، والبحوث الفقهية، وكتب في سيرة النبي وأهل البيت عليهم السلام، وفي حقول عدة، مثل: الشأن الاجتماعي، والمرأة والشباب، والتربية والأخلاق، والثقافة السياسية، ناهيك عن دراساته النوعية المتميزة في الشخصيات والتراجم.
والوقع أن دور ومكانة علماء الدين ومسؤولياتهم مواضيع نالت اهتمامًا كبيرًا عند الشيخ الصفار، ويكاد لا تخلو محاضرة من محاضراته، أو بحث من أبحاثه أو كتاب من كتبه من الحديث عن هذه الطبقة، وأهمية دورها المحوري في ترشيد وعي الأمة والنهوض بواقع المجتمع المسلم، ولعل كتابيه: (علماء الدين: قراءة في الأدوار والمهام) و(القيادات الدينية: الخطاب والأداء الاجتماعي على ضوء مصادر فقه الشيعة الإمامية) خير شاهد على ذلك، فقد بسط فيه الحديث عن هذا الموضوع المهم بتفصيل وشمول.
وكم سمعتُ منه (حفظه اللَّه) في أثناء لقاءاتي المتعدِّدة، تبجيلًا وتقديرًا عاليًا للعلماء العاملين الذين كان لحركتهم العلمية ونشاطهم الديني تأثير بالغ على مجتمعاتهم، وهو إذ يتحدَّث ويُثني على هذه الجهود، لا يفتأ يذكر الظروف المحيطة بتجربة كل واحد منهم ويُقدِّم نظرة تحليلية لها، فالواقع الاجتماعي والظروف الموضوعية التي تحيط بحياة المصلحين تؤثِّر في خيارات تحركهم، والمصلح ذو البصيرة هو من يقرأ الواقع بعين فاحصة تتسم بالمرونة والواقعية، ويكون مشروعه التغييري في العمل مبنيًّا على سبر عميق للواقع والظروف واضعًا نصب عينية مصالح الأمة العليا. وقد ذكر ذات مرة: «عندما استُدعي الإمام موسى الصدر للعمل في لبنان، حظيت الدعوة بتشجيع من علماء قم، لكن الإمام الصدر كان صريحًا معهم بخصوص طبيعة تحرُّكه المستقبلي في الساحة اللبنانية، وأكد لهم أن بلدًا مثل لبنان لا تصلح له قيادة دينية تتحرَّك وفق مقاييس النظرة التقليدية السائدة في الوسط العلمائي في قم. كان السيد الصدر يعتقد أن استمرار بقائه في قم أنفع له، لكن العمل في لبنان -بكل تحدِّياته ومصاعبه- أكثر فائدة للأمة».
ولا يخلو مجلسٌ من مجالس الشيخ الصفار الخاصة من حديث عن هموم الأمة، وضرورة تجاوز حالة الجمود الفكري والتقوقع على الذات التي تنتج ضيق الأفق والتطرُّف المقيت والعزلة، ويتكرّر حديثه دائمًا عن النماذج الهادية التي قدَّمت للأمة خلاصة أفكارها وعملت في سبيل رفعة الدين وإطلاق طاقات المجتمع على طريق الإصلاح والبناء والعمل والتنمية والتسامح، واحترام قيمة الحرية والتعدُّدية في مجتمعاتنا.
وقد ضمّنا -في إحدى زياراته للبحرين- مجلس بيت علماء آل عصفور، حضره جمع من كبار فضلاء وعلماء من العراق وإيران والسعودية والبحرين على هامش أعمال مؤتمر العلَّامة الشيخ حسين آل عصفور «الرسالة والموقف» المنعقد في مارس/ آذار 2010، كان فيه الشيخ الصفار قطب الرَّحى والشخصية التي تهيمن بمداخلاتها العلمية الهادفة على أجواء اللقاء، وكنتُ ألمس مدى حرصه على أن يكون هذا المجلس العامر بالفضلاء فرصةً لتبادل الخبرات ومناقشة مواضيع هادفة، وإن حاول البعض تجييره لأحاديث جانبية ليست ذات قيمة.
جاءت إسهامات الشيخ الصفار في الكتابة عن أعلام الفكر والإصلاح الديني، في معظمها استجابة لدعوات وُجِّهت لسماحته من أجل المشاركة في مناسبات وفعاليات إحياء ذكرى هذه الشخصيات العلمائية الخالدة، وقد وجد الشيخ نفسه مدفوعًا بتكليف شرعي وواجب أخلاقي لأداء هذا الدور بكل اندفاع وحب.
ومن أبرز ما يمكن ملاحظته من خلال مؤلفات الشيخ الصفار العلمية ونتاجه الثقافي اهتمامه الواسع بروَّاد النهضة الإسلامية من المجدّدين، فكتب في سيرة المؤرّخ الشيخ علي البلادي القديحي (ت 1340هـ/ 1922م)، وبحث في دوره في توثيق تاريخ المنطقة العلمي والأدبي من خلال كتابه «أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين»، وهذه الدراسة التاريخية تعدُّ باكورة إنتاج الشيخ حسن العلمي في حقل التراجم والسير والتراث[2] .
كما درس أعلام الفكر والإصلاح، مثل: الشيخ محمد جواد مغنية (ت 1400هـ/ 1979م)، والشيخ محمد أمين زين الدين (ت 1419هـ/ 1998م)، والشيخ محمد مهدي شمس الدين (ت 1422هـ/ 2001م)، والسيد محمد الشيرازي (ت 1422هـ/ 2001م)، والدكتور الشيخ أحمد الوائلي (ت 1424هـ/ 2003م)، والدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي (ت 1434هـ/ 2013م) وآخرين.
واجتهد الشيخ الصفار في محاولة اكتشاف ملامح المدرسة الإصلاحية في تجارب هؤلاء الرُّوَّاد، وعرضه بإسلوب أكاديمي رصين، قادر على تقديم العِظة واستخلاص العِبَر والدروس، بعيدًا عن اللغة الخطابية الفارغة التي لا تقدِّم شيئًا ذا قيمة، أو تعتمد النهج التقليدي الذي يُعيد إنتاج معلومات محصورة بسنة الميلاد وأسماء المؤلفات وسنة الوفاة ومكان الدفن، كما هو شائعٌ في كتب التراجم التقليدية.
في بدايات القرن العشرين دار حوار في بريطانيا بين فرجينيا وولف و ت. س. إليوت حول مسألة القطيعة مع الماضي. كانت وولف تدافع عن قطيعة جذرية مع الماضي، فإذا كنا الآن نرى أبعد من شكسبير، فما الحاجة إلى شكسبير؟ كان جواب إليوت: «أنا الآن أرى أبعد من شكسبير لأنني أقف على كتفيه». وهو مجازٌ استعاره إليوت من إسحاق نيوتن عندما قال: «لقد رأيتُ أبعد من غيري لأنني أقف على أكتاف العمالقة».
ولعل هذا السجال يقرّب المعنى الذي يتوخَّاه الشيخ الصفار في حرصه على قراءة سير العلماء ورموز المرجعية الدينية، ومحاولة النفاذ لمكنون وجوهر الفكر الإصلاحي في سير المصلحين ممَّن درسهم الشيخ، ووقف على كفاحهم الاجتماعي ومسيرتهم الفكرية وعطائهم العلمي الزاخر.
إن منهج الشيخ في دراسته لسير أعلام الفكر الإصلاحي يمكن وصفه بـ«المنهج الإحيائي»، والذي يقوم على محاولة استكشاف الأبعاد التربوية والروحية والاجتماعية لسير المصلحين، وقد انعكس ذلك في دراسته أولًا لسيرة أهل البيت عليهم السلام سواءً فيما يطرحه من محاضراته وخطبه أو أبحاثه وكتبه.
وهو إذ يترسّم هذا المنهج ويلتزم به، يجتهد في شرح المفاهيم الإسلامية ويؤصّل لها تأصيلًا شرعيًّا على ضوء الآيات القرآنية وهدي السيرة النبوية وأهل بيته عليهم السلام، وقد جاءت دراسات الشيخ الصفار لسير العلماء ورجال الفكر والمصلحين ملتزمة بهذا التوجُّه المسكون بهم المعالجات الواقعية لقضايا العصر.
إن تدوين وقراءة تجربة الشخصيات العلمية والفكرية والإصلاحية، بكل مراحلها وأطوارها مليئة بالدروس والعبر، وقادرة على تقديم إجابات مناسبة للكثير من الأسئلة والإشكاليات والاستفسارات، من هنا يؤكد أن «إحياء ذكر العلماء مظهر من مظاهر الإكرام والتقدير لهم، وإعلاء لقيمة العلم ومكانته في النفوس، كما أن قراءة تاريخهم وسيرهم يحفّز للاقتداء بهم في نشاطهم العلمي، ومناقبيتهم الأخلاقية، وتحملهم للمسؤولية تجاه الدين والمجتمع»[3] .
قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[4] .
فالعلماء يُشكِّلون منارات هادية للمجتمع، ويعملون على طريق الدعوة إلى اللَّه بالحكمة والموعظة الحسنة، بهدف إرشاد الناس للطريق القويم، وتهذيب نفوسهم وتنمية معارفهم وحثَّهم على العمل الصالح.
ويوصي الإمامُ عليٌّ عليه السلام ابنه الحَسَنِ عليه السلام:
«احْتَدِ بِحِذاءِ الصّالِحينَ، واقْتَدِ بآدابِهِم، وسِرْ بِسيْرَتِهم»[5] .
وقد وصف الإمامُ عليٌّ عليه السلام شِيَعةِ أهْلِ البَيتِ عليهم السلام في قوله:
«مِنْ عَلَامَةِ أحَدِهِم أنْ تَرى لَهُ قُوَّةً في دِينٍ... يقتِدي بِمَن سَلَفَ مِن أهْلِ الخَيرِ قَبلَهُ، فَهو قُدوَةٌ لِمن خَلَفَ مِن طالِبِ البِرِّ بَعَدهُ، أولئِكَ عَمّالُ اللَّهِ، وَمَطايا أمْرِهِ وطاعَتِه، وسُرُجُ أرضِه وَبريَّتِه، أولئِكَ شِيعَتُنا وأحِبَّتُنا، وَمِنّا وَمَعنا، آهًا شَوْقًا إِليهم»[6] .
ومن اللافت أن أغلب من تحدّث الشيخ الصفار عن حياتهم وجهودهم الفكرية والإصلاحية في خطبه وكلماته، التي تحوَّلت فيما بعد إلى بحوث نُشرت في مجلات أو طُبعت في كتب[7] ، هي شخصيات عايشها الشيخ الصفار عن قرب، واستفاد منها ونهل من علومها، وقد وفّرت له هذه المعايشة الوقوف على الأبعاد العلمية والأخلاقية والسلوكية والعبادية، الأمر الذي أكسب بحوثه عنها نظرة التلميذ شاهد العيان.
وإلى جانب المعايشة، نجد أن الشيخ الصفار يجتهد في قراءة النتاج العلمي والثقافي للشخصية التي يدرس، ويبحث في حياتها ومشروعها النهضوي، ويقدّمها للمستمع/ القارئ زادًا فكريًّا ومعرفيًّا يحفّز على العطاء ويدفع إلى العمل والحركة الفاعلة والإنتاج الواعي، ذلك أن سيرة العلماء المصلحين لا تكون قادرة على تعبئة النفوس وشحذ الهمم إلَّا من خلال أفكارها الخلَّاقة وإبداعها العلمي وتوهُّجها الثقافي الذي يستهدف إصلاح واقع الأمة والارتقاء بها على المستوى المعرفي والاجتماعي.
ومن أجل الإحاطة بكافة الجوانب والأبعاد التي يتمتَّع بها هؤلاء الرُّوَّاد المصلحين نرى أن الشيخ الصفار يحرص -في محاضراته وكتبه- على الاستعانة بمرويات تلامذة هؤلاء المصلحين، ويستعين بشهادة العلماء المعاصرين لهم، تدعيمًا لقيمة معيَّنة يريد التركيز عليها، أو استجلاءً لمفهوم يستهدف الإفاضة في شرحه وتجلية معانيه.
وسنكتفي باستعراض ثلاثة نماذج إصلاحية درسها الشيخ الصفار، سواءً في خطبه ومحاضراته وكلماته أو في أبحاثة وكتبه، من أجل إماطة اللثام عن ملامح المنهج الذي سار عليه سماحته في دراسته لحياة وفكر كل من آية اللَّه الشيخ محمد أمين زين الدين، والمرجع الديني السيد محمد الشيرازي، والإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
أولًا: المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين:
أثناء زيارته لدمشق في صيف ١٩٩٨م تلقَّى الشيخ الصفار دعوتين للمشاركة في إحياء ذكرى المرجع الديني الشيخ محمد أمين زين الدين (ت 1419هـ/ 1998م)، بمناسبة مرور أربعين يومًا على وفاته. وكتب يقول: «... رأيت نفسي مندفعًا للاستجابة للدعوتين الكريمتين، لأداء بعض الحق والواجب تجاه هذه الشخصية العظيمة، ولحاجة الساحة الإسلامية إلى دراسة حياة هذا الرجل المصلح، وما تنطوي عليه من تجربة إصلاحية رائدة.
وكنت أرقب حياة الشيخ زين الدين من بُعد، عبر القراءة المتكرِّرة لمؤلفاته وكتاباته، وعبر ما أسمعه من تلامذته والقريبين منه، ومن خلال اهتمامي وتتبُّعي لتطوُّر الثقافة والحركة الإسلامية في المنطقة، حيث وجدت للشيخ فيها دورًا تأسيسيًّا وتجديديًّا هامًّا.
واختزنت في ذاكرتي صورة شفَّافة مرهفة لسماحته حينما تشرَّفت بلقائه في مدينة سيهات - القطيف، خلال إحدى زياراته لها. وكنت في الثانية عشرة من عمري، وقد بدأت ممارسة الخطابة في مجتمعي بتشجيع كبير، نظرًا لحداثة سنى، فدُعيت للخطابة في حسينية الناصر في سيهات، وهناك فوجئت بوجود شيخ وقور يتزاحم الناس على مصافحته ولثم أنامله وتقبيل غُرَّته الكريمة، وقيل لي: إنه الشيخ محمد أمين زين الدين.
حينها لم أكن أعرف شيئًا عن سماحته، ولا أدري كيف تجرَّأتُ على الإلقاء بحضرته، وماذا قرأت. لكنني أتذكَّر أنه غمرني بالكثير الكثير من تشجيعه ولطفه، وأبدى إعجابه بجرأتي وحافظتي على صغر سنِّي آنذاك، ودعا لي بالخير والمستقبل الزاهر. هذا اللطف والاهتمام جذبني إليه، فتكرَّر حضوري لصلاة جمعته وجماعته فترة وجوده في سيهات، كان ذلك في سنة ١٣٨٩هـ تقريبًا. كما زرته في النجف الأشرف أثناء هجرتي للدراسة الدينية من سنة 1391هـ، وكانت أخلاقه وتواضعه وتشجيعه عنصر انشدادي إليه. ولما قرأته فيما بعد وتفاعلت مع أفكاره الرائعة وأطروحاته التجديدية، وتعرَّفت على شيء من مسيرة حركته وجهاده»[8] .
وقد سلّط الشيخ الصفار الضوء على معالم منهج الشيخ زين الدين في العمل الإسلامي المعاصر، مشيرًا إلى أن منهجه يقوم على ركائز أربع تتمثَّل في: الابتعاد عن التنافس على المواقع، وتجاوز الخلافات والصراعات، والسعي في تربية جيل الإصلاح والتغيير من خلال تنمية القدرات العلمية لطلبته، وتشجيعهم على الانفتاح الفكري والثقافي، وحثّهم على الإنتاج العلمي من خلال الكتابة والخطابة والعمل الاجتماعي.
وتوسّع الشيخ الصفار في الحديث عن التجديد الفكري والثقافي للشيخ زين الدين، مؤكدًا دوره في الانفتاح على الجمهور، وعدم تعاليه أو انكفائه عنهم بالعزلة والاستغراق التام في التعلُّم والتعليم. ثم استعرض جزءًا من أفكار الشيخ زين الدين في الميادين التي كتب فيها من خلال نتاجه الفكري والأدبي.
ثانيًا: المرجع الديني السيد محمد الشيرازي:
يرى الشيخ الصفار أن المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (ت 1422هـ/ 2001م) يعدُّ من طليعة المراجع الإصلاحيين إلى جانب الإمام الخميني والإمام السيد محمد باقر الصدر. فهذا المرجع العظيم «مسكونٌ بهمِّ إنقاذ الأمة، عميق التحليل والملاحظة لأسباب تخلُّفها وانحطاطها، دائم التفكير في برامج ومناهج الخلاص والإنقاذ. واهتمامه بـ(الكتاب) تأليفًا وطباعة ونشرًا، إنما هو حلقة من منظومة فكرية، ومفردة من مشروع حضاري»[9] .
وقد اقترب الشيخ الصفار من الإمام الشيرازي وعرفه نحو ثلاثين عامًا تقريبًا، يقول: «عايشته بعض الفترات فما جالسته مرة إلَّا وكان يتحدَّث بجديَّة وحماس عن مأساة تخلُّف الأمة، وضرورة التحرُّك السريع والعمل الدائم من أجل إنهاضها وإنقاذها. بل وحتى خلال المحادثات الهاتفية طالما أصغيت إلى توجيهاته ووصاياه في التذكير بالمسؤولية تجاه قضايا الإسلام والمسلمين».
ويضيف: إن الإمام الشيرازي حتى حينما يكتب أبحاثًا في الفلسفة أو الأصول أو الفقه، «فإنه يتحيّن الفرصة أثناء الموضوع لطرح هموم الأمـة، وقضايا الرسالة. وفي توجيهه للكتابة والتأليف يدعو المفكّرين والكتَّاب إلى التركيز على معالجة مشاكل الواقع المعيش للأمة، وجذور التخلُّف والانحطاط الذي تعانيه، ومن ثم تناول أساليب العلاج وطرق الخلاص»[10] .
وقد تناول مجموعة من العوامل التي كان لها كبير الأثر في تكوين شخصية الإمام، وهي العائلة، وواقع الأمة وتعدُّد مجالات العطاء، والحالة الدينية، وعطاء الإمام حتى الساعات الأخيرة من حياته.
وتحت عنوان: «سمات الفكر» تناول سماحته سمات فكر الإمام التي تمثَّلت في الأصالة، والتي عنى بها: ارتباطه بالمصادر الإسلامية الأصلية، والانفتاح، حيث تميَّز الإمام الراحل بالانفتاح على الواقع المعاصر بكل تنوُّعاته، والاهتمام بالبرمجة، فقد كان سماحة السيد قدس سره متميِّزًا في تحويل أفكاره ونظرياته إلى برامج.
وتحت عنوان: «ملامح الشخصية» جاء الفصل الأخير ليبحث في الأبعاد الموجودة في شخصية الإمام الراحل قدس سره، مبيِّنًا علمه وجهاده، والبعد الأخلاقي، والطموح وعلو الهمة، وشجاعة الرأي والموقف، وتواصله مع الجمهور، وتربية الكفاءات العملية، والتثقيف والتوعية الجماهيرية، والعمل المؤسساتي.
ثالثًا: الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين:
شكّل المشروع الإصلاحي للشيخ محمد مهدي شمس الدين (ت 1422هـ/ 2001م) نموذجًا فريدًا حظي بتقدير الأوساط الدينية في العالم الإسلامي، فالشيخ شمس الدين خرِّيج حوزة النجف ذات الماضي العلمي العريق، وكان وكيلًا للمرجع الشيعي الأعلى في وقته السيد محسن الحكيم على منطقة الفرات الأوسط بالعراق في الفترة 61 - 1969م. عاد إلى لبنان عام 1969م ليشارك الإمام موسى الصدر في تأسيس «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» الذي ترأَّسه بدءًا من سنة 1978 لحين وفاته في العام 2001م.
وقد درس الشيخ الصفار تجربة الشيخ شمس الدين، كأحد الرُّوَّاد المصلحين والمجتهدين المجدّدين، وقدَّم عنه دراسة بعنوان: «الاجتهاد والجهاد في فكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين»، نشرت في العدد الثلاثين من مجلة الكلمة الفصلية.
درس الشيخ الصفار في بحثه مكوِّنات شخصية شمس الدين العلمية، وقدَّم وصفًا لمدرسة الاجتهادية، ثم عرض لنهجه في الإصلاح والجهاد، وشدَّد على أهمية الجهاد في حياة الشيخ شمس الدين، عارضًا لجانب من جهاده العلمي. يقول الشيخ الصفار: «قد يتعاطى عالم الدين مع الشأن العلمي ضمن الحدود المتداولة المألوفة، فيدرس ويدرّس ويُفتى للناس ويُعلِّمهم الأحكام، ويكتب بعض المؤلفات والأبحاث، كل ذلك في إطار حياة اعتيادية طبيعية، أما العالم المجاهد فهو الذي يشمّر عن ساعديه، ويُعلن حالة الطوارئ الدائمة في حياته، ويتعاطى مع الشأن العلمي كميدان جهاد، يبذل فيه كل جهد وطاقة، ويتحمَّل المصاعب والمشاق، في سبيل خدمة الدين والأمة على الصعيد العلمي.
والشيخ شمس الدين مثلٌ رائع معاصر لهذا الصنف من العلماء المجاهدين، فإبداعاته وابتكاراته العلمية تدلُّ على نشاطه الفكري الدائم، ونوعية الأبحاث العلمية التي أنجزها مؤشِّر على اهتمامه بالتحدِّيات الخطيرة التي يواجهها الإسلام والأمة. فهناك مسائل وقضايا حسَّاسة يُحذِّر الكثيرون من العلماء من خوضها وتناولها بالبحث والتحقيق، لأنها تستلزم جهدًا كبيرًا بسبب قلَّة الطارقين والمتعرِّضين لها، ولأن نتائج البحث فيها قد تكون مخالفة للسائد والمشهور»[11] . ومن المواضيع الفقهية المبتكرة التي درسها (أهلية المرأة لتولِّي السلطة)، و(نظام الحكم والإدارة في الإسلام)، وكتاب (جهاد الأمة).
غير أن التأثير السياسي الأعمق الذي تركه الشيخ شمس الدين المبني على تأصيل فقهي انتهى إليه، هو موقفه التاريخي ودعوته الشجاعة في عدم استئثار الشيعة في أوطانهم بمشاريع سياسية خاصة، وهي دعوة سمعتها منه (قدس اللَّه روحه) غير مرَّة في أكثر من جلسة جمعتني به أثناء دراستي الأكاديمية في بيروت، وردّدها في كتبه وخطبه ومشاركاته الدولية، وقد ذكرها في وصاياه قبل بضعة أيام من رحيله بقوله:
«أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وأَلَّا يُميِّزوا أنفسهم بأيِّ تمييز خاص، وأَلَّا يخترعوا لأنفسهم مشروعًا خاصًّا يُميِّزهم عن غيرهم؛ لأن المبدأ الأساس في الإسلام -وهو المبدأ الذي أقرَّه أهل البيت المعصومون عليهم السلام- هو وحدة الأمة، التي تلازم وحدة المصلحة؛ ووحدة الأمة تقتضي الاندماج وعدم التمايز»[12] .
لم تكن دراسة الشيخ حسن الصفار لحياة وأفكار الرُّوَّاد والمصلحين إذن مفصولةٌ عن منهجه في العمل الإسلامي الذي اختطّه لنفسه لأكثر من خمسين عامًا سواءً في سنوات الاغتراب الطويلة أو في وطنه، وإنما كان لا بد لشخصية لها وزنها الديني ورؤاها الطموحة أن تستوعب كل جهود الإصلاح والتغيير التي سبقتها، للإفادة منها في عملها والاستنارة بعناصر القوة في كل تجربة، وتفادي ما يمكن أن يُعدَّ أخطاء أو معوِّقات قد تعترض مشاريع العمل الديني.
يمكن القول ممَّا عرضنا له: إن الشيخ الصفار استفاد من المشاريع الفكرية والإصلاحية لهؤلاء الرُّوَّاد، وكان لكلِّ واحدٍ منها أثرهُ البيّن والكبير في مسيرة عمل الشيخ الصفار التبليغية والدينية، وانعكست على جوانب تجربته في العمل الإسلامي، ولعلَّنا نرصد تأثُّره الكبير بالشيخ محمد أمين زين الدين في أبويَّته الحانية للحالة الدينية، وحضوره الكثيف في ميادين العمل الاجتماعي، وبُعده عن المناكفات والتزاحم على المواقع.
فيما نرصد أجلى ملامح التأثُّر بشخصية المرجع الديني السيد محمد الشيرازي في انكبابه على الإنتاج العلمي والتأليف في مختلف ميادين العلم والمعرفة، منطلقًا من تقدير مدى الحاجة لهذا التنوُّع الذي يثري المكتبة الإسلامية، ويُقدِّم الزاد الروحي والفكري للجيل الشباب، ويعمل على تعزيز انتمائهم للدين، ويرسخ هويتهم العقائدية، من خلال التوجيه والدعوة لبناء المؤسسات الإسلامية.
أما التأثير الذي تركه فكر الشيخ شمس الدين فنجد أثره الواضح في منهجية الاعتدال والتعايش عند الشيخ الصفار في مجتمع متنوِّع، وفي مجابهة الأفكار المطرِّفة التي تعمل على صهر الشيعة في كانتونات فكرية واجتماعية تفصلهم عن شركائهم في الوطن، وفي الدعوة إلى الانفتاح الفاعل على القيادة السياسية والتعاون معها في إطار شراكة وطنية تحترم التعدُّدية، وتضع مصلحة الأمة وسلامة العيش الآمن والمشترك فوق كل اعتبار.
إن موضوع الإصلاح الديني وتجارب المصلحين الدينية واحد من أبرز المواضيع التي شغلت سماحة الشيخ حسن الصفار، وهي تُمثِّل بُعدًا واحدًا من أبعاد من مشروعه التغييري وميدان من ميادين حركته العلمية والفكرية.
ومن المناسب في ختام هذا المداخلة القصيرة أن نطلق دعوة للباحثين والمهتمِّين لتسليط الضوء على الأبعاد الثقافية الأخرى لمشروع الشيخ الصفار الحضاري، رجاء المساهمة في تحقيق جزء من التطلُّعات التي نذر المصلحون وزعماء الفكر الديني في كل زمان ومكان أنفسهم وأعمارهم لها في سبيل خير البشرية.
والحمد للَّه رب العالمين...