آخر تحديث: 21 / 12 / 2024م - 8:41 م

جدلية التمييز بين الروح والنفس …فهم آخر

لا شك أن بحث هذه الجدلية في مقال أمر في غاية الصعوبة، فهناك آراء كثيرة طرحت في هذا البحث من أقوال علماء، ومفسرين، وكتاب، وباحثين، فمنهم من قال: إن الروح، والنفس واحدة، ومنهم من خالف ذلك، وآراء متعددة لا يسع المجال لذكرها …

وبما أن هذا البحث ضخم، ومتشعب فهو يحتم علي بذل قصارى جهدي في تقديم هذه القراءة المتواضعة بشكلٍ موجز، ومبسط يتقبلها القارئ إن شاء الله لذا؛ سألج مباشرة في بحث هذه الجدلية.

لقد ترافق الجانب الغيبي مع الوجود الإنساني منذ أن كنا في عالم النورانية، أو عالم الذر حينما أشهدنا الله على أنفسنا …ألست بربكم فأجبنا بلى ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى?[1] 

كينونة الإنسان لا تخلو من الجانب الغيبي

كينونة هذا الإنسان الضعيف بنفسه القوي بعناية ربه تتشكل من أجزاء عدة محسوسة، وغير محسوسة، أو بالأصح مادية، وغير مادية فيتكون من هذا الهيكل وهو: الجسم، والنفس، والعقل، والروح، وتنسجم هذه المكونات المعقدة، وتتماهى، وتتفاعل، وتأثر، وتتأثر ببعضها البعض، وكل له استقلاله فالروح تتميز بأن أمرها غيبي إعجازي، لا يعرف كنهه، ولا تفنى أبدا بثها الله في البشر في كل البشر، ويقوى ويضعف تأثيرها بحسب أعمالنا وقربنا الروحي منه سبحانه.

بهذه الروح يقدم لنا الله العون، والرعاية، ويلقي في أنفسنا ما يشاء، وبها نشعر بالكثير من الأمور مثال ذلك بالزمن بعد الاستيقاظ من النوم، وحينما نحلق في الأحلام وقد نرحل بعيدًا، ونرى ونسمع أشياء لا تمت بواقعنا بصلة، فهي من عوالم مختلفة، أو عند تعرض الإنسان لحوادث خطيرة تنقله لمرحلة موت مؤقت، وعبر الأحاسيس والمشاعر، والإلهامات، وكل ما يعجز عن تفسيره البشر من أمور غريبة تحدث في الحياة.

الروح تكريم للبشر..

وقد كرمنا الله بنفحة إلهية منه قال تعالى ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي .. [2] 

فالإنسان كائن كرمه الله، ورفع منزلته بهذه النفحة الإلهية النورانية التي من خلالها يرتقي ليصل؛ لمقامات روحية عليا، فهي إن صح التعبير قناة متصلة بالخالق قد تضيق، وتتسع حسب تغذيتها، فكلما تغذت بالعبادة، والتهذيب، والقرب من الله تعالى اتسعت هذه القناة وقوي الاتصال ببارئها لذلك، فهي واسعة متوهجة، وفعالة عند الأنبياء، والأوصياء، والصالحين، فعبرها يتلقى الأنبياء الوحي، وكل حزم المعلومات عبر جبرائيل تارةً، وبطرق مختلفةً تارةً أخرى لذلك سمي بالروح الأمين لمهمته في نقل ما يؤمر من خلال هذه القناة، فينقل الكتاب، والحكمة، والعلوم المختلفة من خلال هذا الوحي المقدس الذي يلقيه على أنبيائه وخاصته من عباده.

قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ [3] 

وقال تعالى ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [4] 

فحينما تتنزل الروح في ليلة القدر تنزل طاقة هائلة من الرحمات والهبات والعطاءات والمهام العديدة التي لا نعلمها.

فالروح بصمة إلهية في البشر؛

لذا نلاحظ أنه إذا تسامت الروح لدى الإنسان، ترخص النفس وكل الملذات تصبح لا قيمة لها، والأمثلة في ذلك كثيرة، فحينما تحدى نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قومه وكسر أصنامهم، وهو يعلم أنهم لن يتركوه، وأن ما سيفعلوه لا يعني له شيئا مهما كانت نتائجه، وكذلك حين بات علي في فراش النبي لم يكترث بما سيحدث له … وقد وصفت الآية الكريمة الحدث ببيع النفس قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ[5] ،

وكذلك نجد نجله الحسين بن علي الذي باع نفسه لله بل كل ما يملك نفسه وعياله، وكل شيء، ويعود هذا بطبيعة الحال لاتساع الرابط الروحي، أو أسميناه لتقريب الصورة الدهنية بالقناة النورانية بين العبد وربه، فيشعر بلذة القرب من الخالق، والرعاية الملكوتيية فتهون في عينه الدنيا، وملذاتها لذلك نقل أنه بكى على قتلته، وقال أبكي لقوم يدخلون النار بسببي، وأن كل ما يجري علي هو هين؛ لأنه يجري بعلم وإحاطة، وتحت عين الله لاحظ غاية الرقي والكمال الروحي.

أما النفس فهي جوهر الإنسان وحقيقته الشخصية، وذاته بمعنى أوضح هي أنا وأنت، وهي الأمانة والوديعة التي أودعها الله فينا، وهي المكلفة والمسؤولة، وهي التي تحاسب بالثواب والنعيم، أو بالعقاب والجحيم، وهي التي تزهق وتموت، وهي محط الشهوات، فإن زكيت وروضت ونمى فيها الجانب التقوى كان ذلك باب لسموها ورفعها لدرجة الاطمئنان فأصبحت مطمئنة، وكانت علاقتها بالروح قوية.

أما إذا نشطت النفس الأمارة بالسوء، وضعف الردع من العقل، وكان الاتصال مع الروح ضعيفًا انحدر الإنسان إلى الجانب السفلي تدريجيا ليصل إلى درجات حيوانية يتعرض خلالها لحالات مرضية، وخلل في النفس، والعقل، وينعكس ذلك بطبيعة الحال على سلوكه بشكل عام.

وأغلب البشر بحكم قوة الغرائز الحيوانية في النفس البشرية وضعف القناة الروحية تتفاوت سلوكياتهم بين نشاط العقل، وقوة ردعه، ونشاط النفس اللوامة وصراع النفس الأمارة بالسوء، فيكون حاله كالذي يمشي في طريق مليء بالحفر يسقط، وينهض، يتقدم ويتأخر فقد تنجح النفس اللوامة، والعقل والإمداد الروحي في وقوفه وصموده، وقد يتراجع ويسقط من جديد، وهكذا …

فإذا قرر التغيير، وعمل على ذلك نشطت الروح وألهمته وأخذت تجذبه إليها حتى يرتقي من جديد.

هذه التركيبة المعقدة في الإنسان هي في الحقيقة معجزة ربانية نعيشها يوميًا، فتبارك الله أحسن الخالقين.

[1]  سورة الأعراف آية 172

[2]  الحجر آية 29

[3]  الشورى آية 52

[4]  غافر آية 15

[5]  البقرة 127